لا شك في أن التوقيع اليوم على اتفاق يعدِّل اتفاقيتنا الموقعة سابقاً مع شركة «كينروس تازيازت» ويرفع نسبتنا في عائداتها من 3 إلى 5 أو 6 في المئة، يمثل خطوة في الاتجاه الصحيح نحو فرض السيادة الوطنية على إحدى أهم ثرواتنا المعدنية، ألا وهي الذهب ومناجمه في تازيازت. لكن اتفاق اليوم يبقى خطوة محدودة الأهمية في غياب آليات الرقابة الجادة والحقيقية على الأنشطة الاستخراجية للشركة، وفي ظل عدم توفر الضمانات المؤكدة لإمكانية التدقيق الصحيح والأمين في الكميات الحقيقية لإنتاجها من الذهب، وما يكتنف عملها من تلاعب بالأرقام والسجلات المحاسبية، علاوة على ممارساتها الضارة والمؤذية للبيئة والإنسان جراء أعمال الحفر والتصفية التي تقوم بها.
والمثير للعجب أن النسبة الجديدة التي أصبحنا نحصل عليها من «كينروس تازيازت» هي تقريباً نفس الحصة التي كانت لنا قبل ستين عاماً من شركة «ميفرما» التي طالما اقترنت في عقلنا الباطن بسياسات القوى الإمبريالية ونهبها ثروات الشعوب النامية. فقد كانت نسبتنا في «مفيرما» التي تأسست أواخر الخمسينيات، أي قبيل الاستقلال بوقت قصير، بفضل قرض من البنك الدولي ضمنته فرنسا، هي 5 في المئة أيضاً، وذلك رغم ما كنا عليه من فقر واحتياج شديد لكل دولار تدفعه هذه الشركة. ومن مفارقات استقلالنا الوطني أن هذه الشركة، رغم خلفيتها الاستعمارية الواضحة، ساهمت في تحرير بلادنا من التبعية المالية للمستعمر السابق، إذ بفضل مدفوعاتها للخزينة العامة قررت الحكومة الموريتانية الاستغناء عن الجزء الأكبر من المساعدة المالية الفرنسية المخصصة لدفع مرتبات الموظفين في الدولة الوليدة، وذلك بعد عام واحد على إعلان الاستقلال، ثم واصلت تقليل الاعتماد على التحويلات الفرنسية وصولا إلى الاستغناء عنها كلية في منتصف الستينيات، ثم تتويج الفطام المالي عنها بصك العملة الوطنية والخروج من إطار الفرنك الأفريقي الخاضع للضمانات والاشتراطات الفرنسية. ومن يتابع هذا المسار يدرك العلاقة الطردية بين قدرة بلادنا على الوقوف على رجليها مالياً وبين ابتعادها سياسياً عن الميتروبول الفرنسي باتجاه التحالف التدريجي مع المعسكر الآخر المنافس (القطب الاشتراكي). ثم كانت الخطوة الثانية التي كرست ذلك التوجه وأعطته بعده الاقتصادي الأقوي، ألا وهي القرار التاريخي الجريء (والذي بدا للكثيرين قراراً انتحارياً في حينه) والخاص بتأميم «مفيرما» نفسها لتصبح «الشركة الوطنية للمناجم» (اسنيم). وإن اعتبر كثيرون في حينه أن الرئيس المختار تسرع في قرار التأميم واتخذه قبل أوانه الصحيح، فمن المؤكد أنه قبل ذلك الوقت لم يكن لموريتانيا لا الإمكانات المالية ولا الإمكانات البشرية (الإدارية والفنية) لتأميم «ميفرما» أو لإنشاء شركة معادن وطنية موريتانية.
ورغم ذلك كله فقد لعبت «ميفرما» الاستعمارية دوراً كبيراً في تطوير مدينتي الزويرات ونواذيبو، وكان لخدماتها الفضل الكبير في إحداث تغيّرات اجتماعية واقتصادية شديدة الأهمية، ومن ثم ساهمت في تسريع حركة التحديث والتطوير في بلادنا ذات البنية الاقتصادية والاجتماعية البدوية الخالصة. والذين عاشوا في المدينتين خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، يعلمون حجم ومستوى الخدمات الاجتماعية، من تعليم وإسكان وماء وكهرباء ومرافق ترفيهية.. التي كانت «ميفرما» تقدمها للسكان وللآلاف من عمالها هناك. وفي الصورة المرفقة هنا نرى مختبراً دراسياً بإعدادية ميفرما في حي كانصادو بنواذيبو عام 1965.. فأين «كينروس تازيازت» من مثل هذا الدور وتلك الخدمات الاجتماعية المهمة؟ بل، وأين شركتنا الوطنية للمناجم «سنيم» نفسها من تقديم خدمات بهذا المستوى والأهمية والجودة في وقتنا الحالي؟!
والمؤسف حقاً أنه بعد خمسة أو ستة عقود على نيل الاستقلال والسيادة الوطنية وقيام «الجمهورية الإسلامية الموريتانية» مكتملة الأركان، يتم توقيع عقد مع شركة أجنبية أخرى لاستخراج الذهب (وليس مجرد الحديد)، لكن بحصة لا تتجاوز 3 أو 5 أو 6 في المئة، ودون أي دور اجتماعي لهذه الشركة، رغم ما تتمتع به من إعفاءات ضريبية واسعة وما لها من سلطات «استعمارية» تحول دون تفتيش سجلاتها المالية المريبة، وتمنع فرض أي نوع من الرقابة على ممارساتها البيئية المهلكة للإنسان والطبيعة