في يوم 28 اغصطس 1963 ألقى القس المعمداني و المناضل الشهير مارتن لوثر كينغ خطابه الشهير أمام تمثال " لينكولن" في واشنطن وهو الخطاب المعروف ب : "لدي حلم "
I have a dream الذي دعى فيه للتوظيف و الحرية و الحقوق المدنية .
و بعد عام من الإحتجاجات و الشغب أقرت إدارة الرئيس الأمريكي الجديد لندون جونسون في عام 1964غ قانون الحقوق المدنية وفي العام الموالي 1965غ قانون التصويت .
و بذلك انطلقت مسيرة مجيدة و طويلة لكنها متصاعدة بإطراد من تراكم التمكين للسود الأمريكيين (أو الأفارقة الأمريكيين) في الحياة العامة السياسية و التي بلغت ذروتها العظمى بوصول أول سياسي أمريكي ذي جذور إفريقية هو السيد باراك أوباما إلى سدة الحكم في البيت الأبيض بوصفه الرئيس ال 44 للولايات المتحدة الأمريكية و هو بداهة المنصب الأرفع في مؤسسة الحكم الأمريكية .
و في ذكراه الستين التي تظلنا هذه الأيام يبدو خطاب لوثر كينغ قد فعل فعله التاريخي إذ بلغ شأوا بعيدا واقع التمكين السياسي للأمريكيين السود في الإدارات الأمريكية المتعاقبة ولا سيما لدى الإدارة الديموقراطية الحالية للرئيس جو بايدن حيث الحضور الإفريقي يبدو نوعيا و كميا بشكل مميز و لافت.
ففي يوم الجمعة الماضي الموافق 29 سبتمبر 2023غ أصبح الجنرال طيار تشارلز إبراون رئيس أركان القوات الجوية رئيسا جديدا لهيئة الأركان المشتركة في الجيش الأمريكي وهو أرفع منصب عسكري في البنتاغون ، هذا في نفس الوقت الذي يوجد فيه وزير دفاع أمريكي أسود لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة وهو الجنرال المتقاعد لويد أوستن .
والمعروف أن نائبة الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن هي السناتورة السابقة كمالا هاريس وهي سيدة سوداء .
و ليس هذا وحده فهناك سيدة إفريقية أخرى في موقع رفيع هي ليندا توماس غرينفيلد السفيرةالأمريكية لدى الأمم المتحدة و هو منصب عال الأهمية بل أنه يكاد أن يكون بحكم وزير خارجية رديف للولايات المتحدة الأمريكية .
وهناك منصب آخر أقل أهمية لكنه أكثر ظهورا وهو الناطق بإسم البيت الأبيض والذي (يشغله/تشغله أحد أهل النوع /مجتمع G) وهي المثلية كارين جان بيير.
كما لا يخفى أن السيدة ميشيل أوباما زوج باراك أوباما تتحفز في الخلفية كإحدى أقوى المرشحين الديموقراطين المحتملين لخلافة بايدن الهرم .
و ليس خافيا بالطبع أن مسلسل التمكين السياسي للسود في مؤسسة الحكم الأمريكي كان قد بدأ منذ عقود لكنه لم يصل لمثل هذا التزامن في الأهمية و التكثف و الإتساع .
ولا يكابر أحد بأن لحظة وصول الرئيس باراك أوباما للرئاسة في يناير 2009 غ كانت و ستبقى نقطة الذروة النوعية والفارقة . لكن ما هو غائب عن البعض هو أن السيد أوباما لم يكن زنجيا أمريكيا صرفا بالمعنى التقليدي او النمطي التاريخي اي أنه لا يحمل عبء ميراث العبودية و لا بصمة الإضطهاد أو أية دونية في الوعي الشعوري بل إنه على العكس كان نفسيا و تربويا وثقة بالنفس رجلا أبيضا لكنه ببشرة سوداء و نصف انتماء بيولوجي فحسب .
أكثر من ذلك فوالده الكيني الوافد للدراسة قد ارتبط بأمه الأمريكية "آنا دونهام " هناك في هاواي بعيدا عن ما كان يجتاح أمريكا حينها من بؤر العنصرية المقيتة حيث الفصل العنصري على أشده و في أسوء مظاهره وتجلياته كما أن الزواج المختلط بين البيض و السود كان في حكم شبه المحرمات الإجتماعية .
أكثر من ذلك فقد عاش أوباما أكثر طفولته خارج الولايات المتحدة و في دولة أندونيسيا على الخصوص التي تزوجت من أحد مواطنيها والدته بعد طلاقها من حسين أوباما الذي عاد لبلاده .
لذا فقد كان ترشحه للرئاسة أكثر قبولا و أوفر حظا للنجاح ممن سبقه من الأمريكيين السود إلى معانقة الطموح الرئاسي و هم ليسوا كثرا بل إنه شخص وحيد يدعى جيسي جاكسون القس المعمداني و رفيق مارتن لوثر كينغ .
و لعل ذلك كان من باب تسجيل موقف أو سابقة إذ كان هذا القس يترشح بإستمرار منذ الثمانينات لكن على هامش المجرى الرئيسي للتناوب الرئاسي بين الجمهوريين والديموقراطيين .
صحيح أن لأوباما كاريزما شخصية قوية مع امتلاكه لناصية الخطابة و قد كان نجما إعلاميا في واشنطن و داخل مجلس الشيوخ الذي كان الأسود الوحيد داخله كما أنه كان مؤلفا ومحاميا قريبا من الناس وقضاياهم .
ولعل الذي خدم حظه بالأساس هو مواضعة ظرفية من حيث كون ترشحه جاء في سياق رد فعل أمريكي شعبي عام وعارم مناهض للمحافظين الجدد و حروبهم المدمرة الظالمة و الخاسرة في العراق وأفغانستان لذا كان مزاج الرأي العام ينحو بإتجاه انتقال راديكالي يعيد لأمريكا بعضا من رصيد قيمها الأخلاقية و انفتاحها وكونها أمة مهاجرين يحملون الأحلام و الطموحات. ولقد كان السيد أوباما هو رجل اللحظة و المبشر بعودة تلك الروح وهو في خطابه الذي لفت إليه الأنظار لأول مرة في مؤتمر الحزب الديموقراطي سنة 2004 قد قدم نفسه كتجسيد حي للقيم الأمريكية .
من جهة أخرى ومن باب الإنصاف فقد شغلت من قبل شخصيات إفريقية أمريكية في الإدارات المتعاقبة نفس هذه الوظائف أو مثلها في الأهمية . فعلى سبيل المثال لا الحصر :
شغل السيد أندر يه يونغ منصب سفير أمريكا لدى المنتظم الدولي في إدارة كارتر قبل أن يستقيل في 1979غ إثر الضجة التي أثارها اجتماعه بمراقب دولة فلسطين في الأمم المتحدة السيد زهدي لبيب الطرزي .
كما شغلت السيدة سوزان رايس منصب مستشارة الأمن القومي في إدارة أوباما الثانية (2013 -2017 غ) .
وشغلت قبلها كوندوليسا رايس نفس المنصب في إدارة جورج بوش الإبن الأولى (2001غ إلى 2005غ) وبعد ذلك أضحت وزيرة الخارجية في إدارته الثانية من (2005 - 2009 غ).
وسيبقى الجنرال كولن باول صاحب الرقم القياسي في كونه الأول تاريخيا في شغل بعض المواقع العليا في تاريخ السود .
فهو أول إفريقي أسود يكون مستشار للأمن القومي في إدارة بوش الأب (1987 -1989غ) ثم صار أول جنرال أمريكي أسود بأربعة نجوم حيث عين أول رئيس لهيئة الأركان المشتركة في اكتوبر 1989غ مما جعله يشرف عل قيادة حرب الخليج الأولى وتحرير الكويت وقد بقي في نفس المنصب لسنتين أخريين بعد رحيل إدارة بوش الأب حتى سبتمبر 1993 غ في خدمة إدارة كلينتون الديموقراطية .
ثم إنه كان أول إفريقي أمريكي يعين في منصب وزير الخارجية في الإدارة الأولى لجورج بوش الإبن من (2001 وحتى 2005غ ) حيث لعب الدور القبيح المشهود في الأمم المتحدة عندما تورط شخصيا في حملة الترويج أمام مجلس الأمن لحملة أكاذيب إمتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل تبريرا للحرب مما أصاب بالدمار سمعته السياسية وظلت نقطة سوداء في سجله تطارده حتى وفاته في 2021 بمضاعفات كورونا بالرغم من التقدير العام لسمعته العسكرية و ما استحق عليها من أكاليل الغار.
و المعروف أن كولن باول هو من العسكريين الأمريكيين المرموقين في الزمن الحديث فهو صاحب القواعد الثلاثة عشر للنجاح في القيادة كما له عقيدة "كولن باول " المؤلفة من سبعة نقاط استخلصها من دروس حرب إفيتنام التي شارك فيها ببسالة .
وفي سيرته الذاتية التي لاقت رواجا كبيرا والصادرة في سنة 1993غ تحت عنوان "رحلتي الأمريكية".
و هو كتاب قيم لا يخلو من طرائف وقد أورد فيه ضمن ما أورد عندما كان يثني على فرص الحلم الأمريكي أن والديه لو بقيا في جامايكا ولم يغادرا إلى أمريكا حيث ولد ودرس و وصل إلى ما وصل إليه لربما كان سقف رتبته لو التحق بالجيش البريطاني مثلا لا تتجاوز ضابط صف .
لكن كولن باول لم يكن يدري أن بريطانيا تلك التقليدية ستتغير عميقا و مؤسساتها السياسية ستظهر مع مطلع القرن الحادي والعشرين قدرا عاليا من النضج و قدرة الإستيعاب و الإنفتاح و الإثراء الذاتي ما يضاهي إن لم يكن يسبق الولايات المتحدة نفسها .
فبريطانيا اليوم يحكمها رئيس وزراء هندوسي من أصول هندية هو السيد ريشي سوناك و قد كان شغل قبل ذلك منصب وزير المالية في حكومة بوريس جونسون وهو ثاني أهم منصب وزاري في الحكومة البريطانية . و لقد نافسه على منصب رئيس الوزراء ضمن من نافسه وزير سابق في الحكومة من أصل عراقي كردي هو ناظم الزهاوي و الذي كان رئيس حزب المحافظين قبل إقالته لأسباب ضريبية .
كما أن وزيرة الداخلية الحالية إسويلا برافرمان هي أيضا من أصول أسيوية تاميلية.
وقبل ذلك كان ساجد جاويد وهو باكستاني مسلم يشغل منصب وزير الداخلية ثم وزير الصحة إبان أزمة كورونا كما أن عمدة لندن منذ سنوات هو باكستاني مسلم يدعى صادق خان من حزب العمال .
هذا عن الآسيويين أما عن الأفارقة فوزير الخارجية البريطاني الحالي جيمس كليفرلي من أم سيراليونية كانت ممرضة وأيضا كان وزير المالية في حكومة رئيسة الوراء ليز إتراس هو البريطاني من أصول غانية كواسي كارتنغ .
وهناك وضع طريف الآن في المملكة المتحدة ففي الوقت الذي بتربع على رئاسة الوزراء في لندن هندي هندوسي هو ريشي سوناك فقد اختارت أسكتلندا ثاني أهم كيان في بريطانيا لرئاسة الوزراء فيها الباكستاني المسلم حمزة يوسف مما يشي بأن التنافس المحموم في شبه القارة الهندية قد انتقل و تمظهر بشكل ما في جسد القوة الإستعمارية القديمة التي تبدو اليوم "محكومة " على نحو ما بأحفاد من كانوا يوما رعايا الإمبراطورية من سكان الهند درة التاج البريطاني .
السلام عليكم.
محمد ولد شيخنا