تعود معرفتي بالمستشار أحمد ولد هارون ولد الشيخ سيدي إلى سنوات خلت، أُعجبتُ أول ما أُعجبتُ بأسلوبه الرصين ولغته الجزلة عندما كان ينقل حلقات من مقالات الأستاذ ولد بريد الليل (رحمه الله) إلى اللغة العربية، ثم بعد ذلك عندما بدأ ينشر آراءه الخاصة حول بعض القضايا الوطنية، في وقت كانت ساحتنا الثقافية يضربها جفاف روحي وعقلي، لكن علاقتنا ظلت في حدود تبادل التحايا والمجاملات المعهودة كلما التقينا في المناسبات والتظاهرات الثقافية التي تجمعنا عادة.
ومنذ ما يقارب السنتين وأنا أتابع باهتمام كل ما يصدر عنه من مواقف وتصريحات بعد أن احتل صدارة المشهد السياسي والاعلامي بتصريحاته التى تضمنتها بعض الصوتيات المسربة، وكان أكثر ما لفت انتباهي وشدني إليه هذه المرة وضوح رؤيته وقدرته المذهلة على عرض أفكاره، وإن كان البعض يرى أن تلك الصوتيات قد لخَّصت لنا السنتين السابقتين لها، إلا أن الواقع ما زال يؤكد أنها لخصت لنا أيضا السنتين اللاحقتين!
ولقد اتسمت أحاديثه وحواراته خلال هذه الفترة بالحكمة والحنكة وطغت عليها العاطفة الوطنية، ونجت من الهبوط في درك الإسفاف والشعبوية والنفاق السياسي المبتذل، لقد نجح - في كل مرة يتحدث فيها - في فتح نافذة جديدة على الأمل والمستقبل والتغيير المنشود، ورغم ذلك كله كنت أيضا مطلعا على ما يثار حوله من أسئلة ونقاشات، بين من كان يصفه بالمغاضب الباحث عن نصيبه من كعكة السلطة، ومن قال إنه مجرد مُنظِر حالم، وبين من يراه – منذ البداية – سياسياً ناضجاً صاحب رؤية ومشروع.
قبل أسابيع – وبعد التشاور مع مجموعة منتقاة من الأصدقاء الجادين – قررنا زيارة المستشار للاستماع إليه، ولعرض بعض الأفكار المتعلقة بسياق الانتخابات الرئاسية المقبلة، وسبل البحث عن المرشح الأنسب لحمل مشروع التغيير الحقيقي، القادر على إيصال رسالته إلى كافة فئات مجتمعنا.
استقبلنا المستشار في مكتبه (بأريحية لا تكلف فيها) واستمع إلى ما طرحنا من أفكار، وعندما أتى دوره لم يحتج لأكثر من دقائق معدودة ليعرض علينا تصوراً واضحاً للمرحلة المقبلة، وليجعل غالبية الحضور تقتنع بأهليته للقيادة، وصدق من قال: "إن من لا يستطيع إقناعك في دقائق، لن يقنعك في سنين، وما أقل الساسة لدينا القادرين على إقناع الجماهير في سنين، أحرى في دقائق".
ركز المستشار في حديثه على ضرورة التغيير وراهنيته، وللتغيير السياسي - من وجهة نظره - ثلاثة رهانات أساسية:
- أولها انتشار حالة من الوعي بخطورة الوضع القائم، ودواعي التغيير المُلِحَّة.
- وثانيها الوعي بضرورة مراجعة المنظومة السياسية السائدة منذ 1991، بعد أن وصلت إلى طريق مسدود، وبعد أن أصبح ضررها بيناً على التوازن بين السلطة والمجتمع.
- أما الرهان الثالث فيرى أنه يتمثل في خط سياسي جديد يمكن للمجتمع أن يستثمر فيه ويعلق عليه آماله.
لا يسمح المقام هنا بعرض جميع ردود المستشار وبسط كل الأفكار القيمة التي تناولها خلال حديثه معنا، فليست أحاديثه من النوع الذي يسهل تلخيصه، لما فيها من استطرادات لا تقل أهمية أحياناً عن الأفكار الرئيسية نفسها.
لكنني أستطيع أن أوجز جوابه على سؤالنا إن كان قد فكر من قبل في الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة - وهو سؤال لم يجب عنه صراحة في مناسبات سابقة - إلا أن رده علينا كان أكثر تفصيلا وإقناعا، حيث قال:
1- إنه لا يرى ترشيح المرء نفسه للمناصب العمومية أمراً محموداً، لا في تراثنا، ولا في التقاليد السياسية المعاصرة، بل إنه قد يبدو في بعض الحالات مبتذلاً، وإن الأفضل – من وجهة نظره – أن يتم الترشِيح من قبل جمهور عريض من المواطنين أو من طرف مجموعات سياسية وطنية متنوعة، ومعروفة بحمل الهم العام.
2- إن الترشُح كي يكون جدياً لا بد له على الأقل من ثلاث دعائم: بشرية، ولوجستية، وفكرية سياسية (برنامج إنقاذ وطني، علمي ومدروس بعناية، يمكن له أن يضمن إصلاحاً شاملاً وعميقاً للدولة ولأحوال المجتمع).
3- إن مؤهلات قوى التغيير ووسائل الانتصار والقدرة على الإبداع البشري، ازدادت اليوم كماً ونوعاً، فلا بد لنا من ابتكار مقاربات لتحقيق نتائج كبيرة بوسائل قليلة على غرار تجارب ناجحة في العالم والمنطقة.
4- وأخيراً، إنه يقبل الفكرة من حيث المبدأ ويفكر فيها منذ بعض الوقت، لكنه غير مستعجل مع ذلك ومستعد لأن يدعم بكل ما أوتي من قوة وحيلة أي مرشح آخر يمتلك المؤهلات الضرورية.
في الختام ربما يقول قائل إن الوقت ما زال مبكراً للحكم على من لم يتقلد حتى الآن مركزاً سياسياً أو منصباً حزبياً أو مقعداً انتخابياً واحداً، ولم يتقدم له حتى، وهو ما قد يراه البعض نقطة ضعف، في حين يراه آخرون نقطة قوة، إذ لا تدرك القيادة الناجحة بالتجربة والممارسة الميدانية فحسب، بل إنها قد تنبع من الكاريزما الشخصية، ومن المعرفة العميقة المتراكمة بأساليب الحكم وعلوم السياسية وبواقع المجتمع وتاريخه، ومن القدرة على التنبؤ واستشراف المستقبل، وأعتقد أن الشباب والقوى الحية الطامحة إلى التغيير لن يُغريها هذه المرة المرشح الجاهز، بل ستكون أكثر تحمساً لشخص ترشحه هي، تشارك في صناعته تحس بمغزى وقيمة دعمها له، وفي كل الأحوال سيكون من الحكمة - ونحن على أعتاب انتخابات رئاسيات وتحولات اقتصادية واجتماعية متوقعة - أن ننظر في أهلية كل موريتانية أو موريتاني راغب في الترشح لهذا المنصب السامي، وأن ندقق في مدى استعداده وجاهزيته للقيادة، وقبل هذا وذاك علينا أن نقيس السياسيين بمقياس الوطن.