حاول البعض منذ اللحظات الأولى من بعد الإعلان عن جريمة قتل عمار جوب رحمه الله أن يُثْبتَ أن الشرطة هي من ارتكبت جريمة القتل تلك، وأخذ هؤلاء يبحثون عن كل دليل يؤكد هذا الحكم الجاهز، ويلغون أي دليل آخر قد يضعف من قوة حكمهم الجاهز بأن الشرطة هي من ارتكبت جريمة القتل هذه. لم يكن أصحاب هذا الحكم الجاهز بحاجة للكثير من جمع القرائن فجريمة قتل الصوفي ولد الشين رحمه الله في إحدى مفوضيات الشرطة لم تكن منا ببعيدة.
هذه الطائفة أخذت تنبش في كل جرائم الشرطة هنا بل وفي الخارج، وما أكثر جرائم الشرطة هنا وفي الخارج، وذلك من أجل تأكيد ما كانت تريده أن يكون هو الحقيقة بعينها، وهو أن الشرطة الموريتانية هي من قتلت المرحوم عمار جوب في مفوضية السبخة رقم1.
البعض الآخر حاول أن يبرئ الشرطة، وسعيا منه لتبرئة الشرطة أخذ ينبش في سيرة الضحية نفسه ليكتشف أن الضحية له سوابق في عالم الإجرام، وأن في صحيفته جريمة قتل على الأقل. فهل من كانت له سوابق إجرامية يجوز قتله في مفوضية للشرطة؟
إن السوابق الإجرامية يمكن أن نتحدث عنها في هذه الحالة لتبيان الخلل الذي يعاني منه القضاء، فكيف لقاتل في العام 2018 أن يكون حرا طليقا في العام 2023؟ ويمكن أن نتحدث عنها وقت القبض على المجرم، وإن حدث قتل في مكان إلقاء القبض على المجرم يمكن أن نتحدث في تلك الحالة عن السوابق الإجرامية، فربما يكون المجرم قد حاول المقاومة أو حتى الاعتداء على الشرطة. أما إذا كانت جريمة القتل قد حدثت داخل مفوضية الشرطة، وبعد أن أصبح المجرم تحت سيطرة الشرطة بشكل كامل، ففي هذه الحالة لا معنى إطلاقا لاستحضار السوابق الإجرامية للضحية، وقتله في هذه الحالة يعد من أعظم جرائم القتل لأنه قُتل في المكان الذي يفترض فيه أن يوفر له الأمن، ولا تختلف في هذه الحالة جريمة قتل مواطن صالح بلا سوابق عن قتل مواطن آخر له سوابق، فقتل أي منهما في مفوضية شرطة يعتبر جريمة نكراء.
المؤسف حقا هو أن هؤلاء وأولئك هم من سيطر على مواقع التواصل الاجتماعي يوم أمس، فالطائفة الأولى حاولت أن تُحَمِّل الشرطة ومن ورائها النظام جريمة قتل عمار جوب رحمه الله، ولم تقصر في تجييش العواطف ولا في الشحن الإعلامي، وبالتالي فهي مسؤولة بشكل أو بآخر عن كل ما حدث من بعد ذلك من تخريب في نواكشوط ونواذيبو..
والطائفة الثانية، وفي محاولتها لتبرئة الشرطة تصرفت بشكل بعيد من الإنسانية والأخلاق، فاستحضرت سوابق الضحية في ظرف يُفترض فيه أنه وقت تضامن مع الضحية وذويه. هذه الطائفة التي تُحاول أن تَسْتَسهل مثل هذا النوع من الجرائم، عليها أن تعلم هي أيضا بأنها تتحمل بشكل أو بآخر جزءا من المسؤولية في كل جريمة قتل من هذا النوع قد تقع مستقبلا. إن اسْتِسهال جرائم القتل هو جريمة في حد ذاته، ثم إن المسارعة في تبرئة متهم بجريمة قتل، أو المسارعة في اتهام بريء بجريمة قتل، كلاهما يعدُّ من الأخطاء الكبيرة التي يجب على العقلاء أن يبتعدوا عنها.
في جرائم القتل يجب الابتعاد كليا عن المسارعة في إصدار الأحكام الجاهزة بالبراءة أو الإدانة، ومما عمت به البلوى في زمن سيطرة مواقع التواصل الاجتماعي أن المدون الذي لا صلة له بالموضوع، قد لا يتورع عن استخدام حسابه في اتهام من قد يكون بريئا بجريمة قتل، أو تبرئة من قد يكون مجرما، تبرئته من جريمة قتل ارتكبها.
أين العقلاء من رجال الإطفاء؟
بالأمس حضر الجميع ولم يغب إلا العقلاء من رجال الإطفاء الذين لا يتسرعون في إصدار الأحكام الجاهزة، والذين يحاولون إطفاء نيران يريد العض هنا أو هناك إشعالها. حضرت المعارضة بنوابها وحقوقييها وإعلامييها وسياسييها، وحاولت أن تستغل هذه الجريمة ضد النظام، وكانت الفرصة مناسبة، فالجريمة وقعت بعد أيام قليلة من إعلان نتائج انتخابات مشكوك فيها من طرف المعارضة. لم يقصر المعارضون الذين حضروا في تجييش العواطف ولا في الشحن الإعلامي فكان ما كان من مظاهرات تخريبية في نواكشوط ونواذيبو.
وبالأمس حضر أيضا الصف الثاني أو الثالث من الأغلبية ( الصف الأول تبخر كما تبخرت الأغلبية دائما عندما يجد النظام نفسه أمام أزمة، ولكم أن تسألوا عن المائة والسبعة نواب التي حصدها حزب الإنصاف لوحده في الانتخابات الأخيرة، ولكم أن تستغربوا من عدم مشاهدة نائب واحد من المائة نائب وزيادة من حزب الإنصاف، وذلك في الوقت الذي شاهدتم فيه بعض نواب المعارضة، والتي لم تتمكن في مجموعها من حصد ربع ما حصده حزب الإنصاف لوحده). المهم تبخر الصف الأول في الأغلبية كما تعود دائما أن يتبخر في أوقات الشدة وأن يحضر في أوقات الرخاء، وحضر البعض من الصف الثاني من الأغلبية، وقد حاول هذا البعض أن يبرئ النظام من خلال كشف سوابق الضحية الإجرامية، وربما يكون هذا هو أسوأ أشكال الدفاع عن النظام في مثل هذه الأوقات.
لو حضر العقلاء يوم أمس لكان موقفهم السليم هو الوقوف مع من كلف بالتشريح، والوقوف بقوة من بعد ذلك مع من سيكلف بالتحقيق في الجريمة، فذلك هو ما سيخدم الضحية وذويه، وذلك هو ما سيخدم العدالة، وذلك هو أيضا ما سيخدم الوطن.
إن حضور ذوي الفقيد والسماح لهم باختيار محام يثقون فيه للحضور لتشريح الجثة يعد أمرا مهما كسبناه من جريمة قتل الصوفي، وما دامت هناك لجنة تشريح بحضور ذوي الفقيد ومحاميهم، فالمطلوب في هذه الحالة هو أن لا نتسرع في إثبات أو نفي الجريمة عن الشرطة أو عن غيرها من قبل صدور التقرير الطبي ومن قبل أن تقول لجنة التحقيق كلمتها.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين الفاضل