مع أنه لا عواطف في التجارة، بل هي اليوم ذكاء وشطارة، فإن مما يحبب شركات الاتصال العاملة في بلادنا ويقربها منا، هويتها القِطْرِية، لكونها تنتمي لبلدان شقيقة عزيزة علينا (تونس، المغرب، السودان).
أزعم أن هذا الانتماء الاقليمي، وإن تشأ السياسي، تستفيد منه هذه الشركات الثلاث على نحو تلقائي؛ سواء قصدت ذلك أم جاء غلبة أو عرضا.
ومع ذلك، وبسبب الحالة المزرية لخدمات هذه الشركات وأخطائها وتجاوزاتها، تقصيرا أو تدبيرا، فقد بات من الضروري أن تُحاسب، على الأقل حسابا يسيرا، على ذلك، طبقا للقانون ولدفاتر الالتزامات التي وقعتها مع السلطات المعنية.
وبالجملة هناك أسئلة ثلاثة من الملح طرحها اليوم:
1- هل تدرك السلطات الموريتانية حجم "الاستنزاف" الذي يتعرض له مواطنوها اقتصاديا جراء الافراط في استخدام وسائل وخدمات الاتصال عبر هذه الشركات؟!
2- وهل تدرك أيضا حجم ما يتعرضون له من معاناة وظلم و"احتيال" أحيانا في علاقاتهم التجارية المحضة مع تلك الشركات...؟!
3- وهل تدرك السلطات نفسها مستوى الرداءة والتقصير في المجالات الإدارية والتقنية لهذا الثلاثي، في خدمات الاتصال نفسها، والتلاعب الحاصل في انتشارها وفي أداء ذلك الانتشار الشكلي أحيانا...؟!
بالنسبة للسؤال الأول: على رغم غلبة الفقر والفاقة أحيانا على المواطنين الموريتانيين، فإن استخدامهم للهواتف والاتصالات، يفوق مستواه في الدول الغنية؛ حيث يندر اليوم أن توجد أسرة موريتانية لا يملك جميع أفرادها، أو معظمهم هواتف وشرائح للشركات الثلاث كلها أو بعضها، كما أن الإنفاق على استهلاك اتصالاتهم يطغى ويسبق شراء الضروريات أحيانا كثيرة!
وبالنسبة للسؤال الثاني: فإن اعتماد شركات الاتصال على الخدمات المسبقة الدفع (وهو عكس الأصل الذي هو تقديم الخدمة ثم قبض ثمنها في نهاية الشهر مثلا) قد مكنها من وضع كل الخسائر والأخطاء الذاتية (سوء الإرسال وزحمته) والخارجية (انقطاع الكابل البحري) على كاهل المستهلك وحده؛ فهي قد غابت على الثمن وانتهى الأمر!
وتتخذ هذه الشركات كلها من عامل "الزمن" سيفا مسلطا، ووسيلة تضاهي الاحتيال! حيث تبيع للمشترك خدمات تعلم أنها قد تنقطع أو لا تتوفر بسبب بعض تلك العوامل الخارجة عن إرادته؛ فيُهلِك الدهرُ حقوقَه، وتكون هي أخذت ثمنا لمثمون لم تقدمه مطلقا!!
وبالإضافة إلى ذلك فإن كثيرا من المواطنين يقعون في أخطاء تُفوِّت أموالَهم، بسبب كثافة وغموض الدعاية الترويجية والعروض المتكررة، الكاذبة أحيانا (بعض الشركات تعلن عن خدمة إعطاء نتيجة مسابقة ما قبل أن تنشر نتائجها، المتاحة أصلا دون تلك الشركات، ولكنها تخصم ثمن الخدمة من الرصيد تلقائيا، سواء حصلت على النتيجة المطلوبة أم لم تحصل عليها...!).
أما قضايا اختفاء الرصيد أو ضياعه هباء، فهي من الأمور الشائعة بين المستهلكين التي يسمونها "سرقة الرصيد"، ويُسَلمون الأمر فيها لله، بسبب العجز عن فهمها فضلا عن علاجها. وهي في أحيان كثيرة قد تكون إلقاء باللوم جزافا على الشركات، بدل لوم النفس المهذارة! وقد تكون الشركة بريئة منها أو من بعضها قطعا.
وفيما يتعلق بالسؤال الثالث، الذي هو بيت القصيد وبؤرة الرصيد، تعمل هذه الشركات بعقلية "تاجر البندقية"، وعامل "اليومية"! فهي لا تكاد تنفق أوقية إلا بولادة عسيرة، حتى إن بعضها لا تطبع رأسيات ولا أختاما رسمية لمعاملاتها، ولا توفر خدمات استعلام حقيقية، ولا خطوطا مجانية لخدمات المجتمع (من أهمها خدمة الدليل أو الاستعلامات العامة عن العناوين وأرقام المؤسسات الصحية والامنية والثقافية والمطاعم...الخ) كما هو الحال في معظم الدول.
ومن أكبر وأشنع عمليات الكذب والغش ما تنشره هذه الشركات في إعلاناتها التلفزيونية الطامية عن أحجام وسرعات حزم البيانات في شبكة الانترنت، وزيف مستويات جيل الاتصالات (Gx) الذي تدعي تقديم خدماته... الخ
كذلك على الصعيد التقني فإن هذه الشركات تُقَتِّر تقتيرا مخلا على الاستثمار في البنى التحتية، سواء أبراج البث أو خطوطه الأرضية، ولا توفر لأغلبها التطوير ولا حتى الصيانة!
وأما تغطية الداخل (مدنا وقرى ومسافات) فهي نادرة ويتميز بعضها بالغش الفاضح حيث تقيم أبراج اتصالات ناقصىة لا تتوفر فيها بعض الخدمات الأساسية مثل الانترنت، وأحيانا لا توفر لها وسائل التشغيل من الطاقة والصيانة...الخ!
إن العامل المشترك والجامع المانع لهذه الشركات هو الإمساك عن الاستثمار في وسائل توفير وتحسين ما تبيعه أو تلتزم به من خدمات الاتصال، كمًّا ونوعا،مما ترك هوة دائمة وخطيرة من حيث تكلفتها الاقتصادية والاجتماعية على المجتمع والدولة.
وللتغطية على هذه الاختلالات والانتهاكات، تلجأ شركات الاتصال إلى الحيل الدعائية، وحتى السياسية، للاستمرار بدون تغيير ولا محاسبة.
وهكذا تقتصر على توزيع الاعلانات، أو لنقل الرشاوى، على الصحافة ووسائل الاعلام، والمشاركة في مجهودات الدولة وحملاتها الحكومية، مثل الاعلانات التي تنشرها لصالح السلطة العمومية الآن للحماية من وباء "كورونا"... ولعل هناك أشياء أخرى تدفعها لا تراها العين، تماما مثل فيروس "كورونا"!!!
ومن هنا يَرِد التساؤل عن دور سلطة التنظيم، وهي هيئة شديدة البيروقراطية، تفضل العلاقة مع الشركات على العلاقة مع الجمهور!
ويبدو أن دورها مقتصر على فرض غرامات مالية "مدروسة" على شركات الاتصال، وهي غرامات أقرب إلى الضريبة، إن لم نقل الرشوة، طالما أن قبول استمرار أسبابها أو السكوت عليها، دائم لا سعي فيه للتغيير!!
أخيرا، هناك مجال أوسع للحديث... عن الأضرار السيادية والأمنية لانعدام مؤسسة اتصالات وطنية لا يتحكم فيها طرف خارجي، مهما كان قريبا وعزيزا، كما أن هناك أسئلة أخرى عن نتائج إهمال وتضييع بنى الاتصال التقليدية الأرضية والراديوية عبر الموجات (OPT وكابلي أكجوجت ولـﮕـوارب...) والتي تُركت للتآكل والانهيار كلية!
فما هو الضمان لاتصالات الدولة وبث وسائل إعلامها... إذا أمسكت شركات الاتصال، ومن فوقها شركات الاقمار الصناعية...؟!
ذلك حديث آخر ذو شجون وسهول وحزون...!!