هنا في وهذه الأماكن القصيّة، التي بالكاد يصل سكانها لعشرين نسمة، كان كل شيء على طبيعته المعهودة ، فالوجوه هي ذاتها التي اعتادت على الابتسامة الصباحية على احتساء كؤوس الشاي وعلى تبادل أطراف الحديث عن المواشي وأسعار العلف، ربما الشيء الجديد قبل انطلاق الإحصاء الإداري ذي الطابع الانتخابي، هو قصص المهاجرين ومغامراتهم في رحلة إلى ماما أمريكا، التي أصبحت حلم معظم الشباب خاصة من الأسر الفقيرة .
ومع بداية الشهر الجاري شهدت تلك المناطق لاسيما المحاذية منها للعاصمة حركة دؤوبة، فسيارات الدفع الرباعي صارت تنافس عدد المساكن وساكنيها، وطغى هدير المحركات الأوروبية واليابانية الفارهة على أصوات الحيوانات الأليفة التي كان حنينها لصغارها يتناسبُ إيقاعُه مع هدوء المكان، الكل هنا يتحدث عن بطاقات التعريف وأسعارها، وعن رجال الأعمال المُتسيّسين الحالمين بالحصول على مناصب انتخابية لتحقيق هوايتهم في الجمع بين المال والسلطة .
استطاع أصحاب تلك البوادي المهجورة أن يُحولوا معظم الأحياء الشعبية في العاصمة بمختلف ولاياتها إلى سوق للنخاسة الانتخابية، فقد تم تداول مقاطع مصورة في الشارع العام لأشخاص يدفعون الآلاف مقابل شراء بطاقات التعريف، أصبحت البرامج الانتخابية تعني في نظر الجميع الدفع مقابل التصويت، واختفت من المشهد تلك المناشير والكُتيّبات التي كانت تشرح برامج المرشحين. والحق أن ثمة عوامل عديدة ساهمت في انتشار ظاهرة شراء الأصوات منها: الفقر والتخلف، ناهيك عن فقدان الثقة في البرامج الانتخابية بعد تجربة التسعينيات من القرن الماضي.
كان من الطبيعي والحالة هذه أن تتصدر قرى رجال الأعمال قائمة المكاتب من حيث عددُ الناخبين في رسالة واضحة لأصحاب القرار مفادها أنهم يتحكمون وبسهولة في إيقاع العملية الانتخابية، وهو ما جعل من أحزمة الفقر المحاذية لمراكز المدن الكبرى في موريتانيا مجالا للصراع بين أصحاب رأس المال ، في محاولة قوية للتأثير على التوازنات التي تعتمدها الدولة في تلك المناطق، لاسيما ما تعلق منها بتوزيع المناصب الإدارية والسياسية.
المثير للاستغراب هو انتشار خطاب النخاسة الانتخابية بكل جرأة على وسائل التواصل الاجتماعي، لدرجة أن الأمر وصل للمفاوضات العلنية على أسعار بطاقات تعريف وعددها، فقد تجاوز سعر البطاقة حاجز الخمسين ألف أوقية جديدة في المزادات الافتراضية، الأمر الذي يعكس حدة التنافس على ناخبين باتوا يعانون مما يمكننا تسميته باحتجاز إرادتهم الانتخابية، خصوصا وأن عمليات البيع هذه تُخول لمن سيدفع الثمن الاحتفاظ ببطاقات التعريف كي لا يتمكن أصحابها من التسجيل في مكاتب أخرى.
هذه الظاهرة وبحسب مراقبين ستكون لها تداعيات بالغة الخطورة على نتائج الانتخابات الجهوية والبرلمانية وحتى البلدية، وقد يمتد تأثيرها ليشمل الاستحقاقات الرئاسية في العام المقبل، واعتقد أن الخطر يكمن في الاستحواذ المدفوع الثمن على آلاف الناخبين، وهوما جعلنا أمام سيناريوهات متعددة، فإما أن يستجيب النظام لمطالب ثلة قليلة، بات تحكُّمها في خيوط العملية السياسية واقعا يصعب تجاهله، أو يحاول فرض خياراته الإستراتيجية المعتادة، حينها سيلجأ المتضررون من الاستثمار في شراء الأصوات إلى استخدام ورقة مقاطعة غير قابلة للتصنيف بالنسبة لشركاء موريتانيا الدوليين، بحكم كونها تعكس سلب إرادة ناخبين احتجزت بطاقاتهم بصيغ تخضع للبيوع العرفية المتداولة في مثل هذا النوع من المواسم.
نحن إذن أمام منعطف جديد توحي كل مؤشراته بمتغيرات عديدة، لعل أبرزها عجز الإيديولوجيا عن تكوين كتل انتخابية قادرة على المنافسة، بعد أن سلّم معظم قادتها محاضر استسلامهم لرئيس الجمهورية، فضلا عن انتهاء صلاحية الخطاب الشرائحي الذي استطاع طَوال عقد من الزمن أن يملأ الفراغ الذي سببه غياب البرامج المقدمة من المرشحين، ولاشك أن تراكم خيبات الأمل الناجم في الأساس عن مواقف السياسيين المتغيرة، قد أقنع المواطن العادي بأن يتولى بنفسه عملية بيع صوته قبل أن يختطفه شخص آخر تحت عناوين براقة، وهكذا فُتح المجال أمام نخاسة الأصوات التي ستخلق اختلالات عميقة ستجعل من عدد الناخبين في قرى مغمورة ينافس نظيره في مدن ذات كثافة سكانية مرتفعة، ما يعني في المحصلة أننا بحاجة لخطة بديلة لتحرير أصوات المواطنين من شعارات السياسيين الفارغة ومن بريق أثمان يدفعها رجال أعمال تسللوا إلى السياسة من باب عملية دفع مسبقة لا تسمن ولا تغني من جوع.
د. أمم ولد عبد الله