في السبعينيات والثمانينيات كانت مدينة نواكشوط، وبحق، «تفوح ثقافةً» وفكراً وعلماً؛ ففيها عدة جمعيات ثقافية ونوادي مسرحية وروابط فنية، والعديد من دور العرض السينمائي، وعدة مراكز ثقافية عربية، وكانت مكتبات المطالعة متوفرة وقاعاتها لا تكاد تجد فيها مقعداً شاغراً، ودار الثقافة والمتحف الوطني مزارين يوميين للجموع من مختلف الأعمار، وكانت المدارس الثانوية تعج بالأنشطة الثقافية (شعر ومسرح ورسم)، وقلَّ يوم يمر دون أن تشهد فيه دارَا الشباب (القديمة والجديدة) عرضاً مسرحياً أو محاضرةً ثقافيةً أو ندوة فكرية أو أمسية شعرية، حيث كانت القاعات تمتلأ عن آخرها بجمهور كبير مولع بالثقافة وبالأنشطة الثقافية. وكانت ثقافة الكتاب (قراءةً وإعارةً واقتناءً ومصاحَبةً.. وسرقةً كذلك) ثقافة منتشرة بين الجميع، وتجارةُ الكتب مزدهرة، وكنتَ تجد الزبائن مزدحمين على باعة الكتب في الشارع، وفي المكتبات التجارية الرئيسية (مكتبة جراليكوما وشركة الكتب الإسلامية ومكتبة منير.. إلخ). وكانت هناك مجاميع من الأساتذة وطلاب المدرسة العليا للأساتذة يقدمون الدروسَ التطوعيةَ والمحاضرات التوعويةَ في أحياء الكبَّه.. وكل ذلك في جو شديد الاحتفاء بالثقافة وبأهلها، تسوده روح معنوية عالية وحالة جلية من التطلع إلى المستقبل والتفاؤل بآفاقه الواعدة كما تبدو للجميع، رغم صعوبة الظروف المادية وشح مصادرها وبدائية وسائلها. معظم هذه المظاهر والأنشطة والمرافق اختفت ولم يعد لها وجود في نواكشوط الحالية، وقد حدث ذلك قبل ثورة الاتصال الرقمي وانتشار الهاتف الذكي وهيمنة إعلام التواصل الاجتماعي. ولعلي شخصياً سجلت اكتمال عملية التصحر الثقافي لمدينة نواكشوط ونضوب مصادر الفعل الثقافي فيها من خلال حادثة صغيرة أعتبرها ذات دلالة معبرة في هذا الشأن. ففي مساء ذات يوم من صيف عام 1997، وأنا خارج من المركز الثقافي المغربي وبيدي جزء من النسخة العربية لكتاب «قصة الحضارة» لمؤلفه المؤرخ الأميركي ويل ديورانت، تصادفتُ مع أحد المعارف على مقربة من «كراج باركيول»، فوقفنا نتبادل أطراف الحديث، ليبادرني بالسؤال عن السبب الذي جاء بي إلى هناك، فأفهمتُه أني خرجت لتوي من مكتبة المركز الثقافي المغربي، فما كان منه إلا أن تساءل مستنكراً: «هذا ظرك ايفرغ فيه حد وقتو.. لكتوب والمكتبات ولقرايه؟». عندها تأكد لي بـ«الدليل الواضح» أن الثقافة أصبحت سلعةً بائرة في نواكشوط، وذلك حين عمل صانعو القرار على تتفيهها والتقليل من قيمتها وقيمة حمَلَتها ومنتجيها، لذا فقد توقّف الإنتاج الثقافي وكسدت سوقُه وماتت مؤسساته، ولم تعد الثقافة بذاتها محل تقدير أو موضع احترام من المجتمع الذي بات ينظر إليها على أنها «ما اتجي في المرجن»، وبالتأكيد فهي إن كانت «تفوح» برائحة فلا شك أن رائحة «بنافه» هي الأشهي والأطيب لأغلبية لا تجد ما يكفي لإطعامها من جوع، لذا فالثقافة في نواكشوط حالياً «ما تلات تنشم ريحتها»!