اليوم وقد انتشر التعليم العصري، وأصبح تسعون في المئة من مجتمعنا يعيشون في المدن، ووجدت بعضُ المفاهيم الحديثة حول الدولة والسلطة مكانَها في الوعي العام، وتطورت أساليبُ الإنتاج ووسائله وأنماط الحياة وأشكالها إلى حد ملحوظ، وبلغ انفتاحُنا على العالَم الخارجي بما يقدمه من تجارب متنوعة وأفكار جديدة مبلغاً غير مسبوق، كما ترسخ الاعتراف الدولي والإقليمي باستقلالنا كدولة ذات سيادة وأُغلق إلى الأبد ملف المطالبات ببلادنا وما رافقه من محاولات محمومة لزعزعتها في الستينيات.. رغم كل هذا نجد اليوم شكوكاً قويةً لدى المختصين من علماء السياسة والاجتماع حول مدى ملاءمة بيئتنا المحلية لتبني واستيعاب النظام الديمقراطي بآلياته الإجرائية ومفاهيمه النظرية وقيمه المبدئية. لكن في الوقت نفسه نجد بعضَ شبابنا من مستخدمي الفيسبوك، يكتبون بكل وثوقية ودوغمائية أنه كان خطأً شنيعا عدولنا في الستينيات عن النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي وتحولنا عن التعددية الحزبية إلى نظام الحزب الواحد!
لكن قليل من هؤلاء الشباب مَن يعلم أن كل ذلك جرى في إطار التفاوض الحر والمسؤول بين القوى السياسية الموريتانية القائمة في حينه، وأنه إدراكاً من هذه القوى لحقائق واقعنا كمجتمع قبلي من البدو الرحل، تقرر أن إقامة الدولة كمؤسسات في الواقع وكمفهوم في الوعي، أولى من إقامة نظام برلماني ذي أحزاب متعددة في بيئة لا عهد لها أصلا بنظام السلطة المركزية. لقد كان نظام الحزب الواحد تتويجاً لمفاوضات استمرت طويلات وتبلورت عنها خلاصات وقناعات بأنه لا معنى للتعددية الحزبية قبل قيام الدولة، وأن وجود هذه التعددية في مجتمع قبلي من البدو الرحل يصنع حالةً نشازاً ويفتح الباب على احتمالات لا يريدها عاقل لوطنه. ومما عزز هذه القناعة أن الأحادية الحزبية في حينه كانت الصيغة السائدة في جميع بلدان أفريقيا والعالم العربي ومعظم آسيا وأميركيا اللاتينية وجميع أوروبا الشرقية.. وذلك باعتبارها الأداة الفعالة والضرورية لتحقيق الاندماج الوطني في مجتمعات انقسامية هشة لم تتبلور بعد شخصيتُها الوطنيةُ بما يكفي، وهو ما ينطبق على بلادنا أكثر من غيرها بكثير، لاسيما في ظل افتقارها تاريخياً إلى أي نوع من ميراث الدولة المركزية بتقاليدها في التدبير والضبط والإدارة.
ولعله لهذا السبب لا نكاد نجد مسألة التعددية الحزبية كمطلب ملح لدى المعارضة في حينه، سواء المعارضة التي بايعت ملك المغرب أو المعارضة التي ربطت نفسها أيديولوجياً بالنموذج الماركسي، ليس لأنها بمطلب كهذا تناقض نفسها بنفسها، ولكن أيضاً لأن واقع البلاد حينها (وربما الآن أيضاً) لا ينسجم مع التعددية الحزبية كآلية لتدبير الخلاف السياسي نشأت في أصلها داخل مجتمع غربي صناعي ومتعلم ومتقدم.
ورغم وجود نظام الحزب الواحد رسمياً أو في ظاهر الأمر، فقد كانت هناك تعددية داخل حزب الشعب نفسه، أو كما يقول أحمد ولد سيدي بابا، فقد «كانت المداولات والتصرفات وحرية الرأي والتعبير مطلقة تماماً. لذا كانت الاجتماعات في الحكومة وفي المكتب السياسي للحزب تطول كثيراً، وفي بعض الأحيان تستمر يومين أو ثلاثة أيام، لأن كل من أراد التحدثَ كان له الحريةُ المطلقةُ في طرح ما يشاء. وطبيعة المختار نفسه كانت تتنافى تماماً مع الفكر الأحادي. وهو كرئيس، كان يسمح لأي أحد بمخالفة رأيه هو شخصياً، وكثيراً ما كان يحصل الوفاقُ في بعض الاجتماعات على رأي يختلف عن رأي المختار، فينصاع هو لرأي الأغلبية».
وعندما نقارن حجم الدماء التي سالت في كل البلدان المستقلة حديثاً، وضمنها بلدان جوارنا القريب، وما تعرَّض له آلاف المعارضين، السياسيين والنقابيين، في هذه البلدان، من تنكيل وتعذيب وقتل وتشريد.. عندما نقارن ذلك بما حدث لدينا في السنوات الأولى من الاستقلال، ندرك حجم التسامح والتسامي وروح المسؤولية الديمقراطية المتأصلة لدى الرئيس المختار، بحكم تكوينه وطبيعة شخصيته ومستواه الفكري التنويري العالي جداً.
وليست المفارقة فقط أن يعيب على المختار نظامَ الحزب الواحد أولئك الذين بايعوا سلطان المغرب، أو أولئك الذين ربطوا أنفسهم أيديولوجياً بالماركسية ونموذجها الماوي ورأوا في «شيخو توري» الذي كان يطعم معارضيه للوحوش المفترسة من سباع ونمور، أو أولئك الذين آمنوا دائماً بنظرية الزعيم الأوحد في نظم الجمهوريات العربية الثورية السلطوية.. ولكن من المفارقة أيضاً أن ينتقد الأحاديةَ الحزبيةَ مَن لا يحتوي سجلُّه السياسي على نضالات وتضحيات مؤلمة كثيرة من أجل الديمقراطية، وقد أصبحت ظروفُ واقعنا، منذ ثلاثة عقود أو يزيد، أكثر نضجاً لاستنباتها وأوفر استعداداً لتبني آلياتها واستيعاب مفاهيمها، ليبدو على حقيقته مجردَ معارض بأثر رجعي!