من زاوية التأمل التاريخي في تطور الدولة والمجتمع خلال العقود الماضية؛ يبرز بوضوح الأثر التأسيسي الذي أحدثه نظاما الرئيسين المختار ولد داداه رحمه الله ومعاوية ولد الطايع متعه الله بالصحة، فهذان النظامان من أكثر الأنظمة الموريتانية تأثيرا في مسار الدولة والمجتمع في موريتانيا لاعتبارات عديدة يضيق المقام عن حصرها.
وما نود الإشارة إليه هنا هو الأثر الذي ترك النظامان المذكوران في مجال المشاركة والإدماج للقوى النخبوية والمجتمعية في مختلف دوائر الدولة، حيث أسس نظام الرئيس المختار لمسار دمج وإشراك مختلف أطياف النخبة الموريتانية في دوائر صنع القرار بشكل واعٍ ومسؤول، فيما تميز نظام الرئيس معاوية بالتأسيس لمسار إشراك أبناء المجتمع العميق بمختلف تنوعاته في مؤسسات الدولة.
لقد حمل الرئيس المختار داداه هَمّ بناء الدولة وحماية الوطن، وأدرك بشكل مبكر أن الطريق لتحقيق هذا الهدف المركزي يمر عبر تجميع القوى واستيعاب مختلف الطاقات الوطنية، فدشن منذ الوهلة الأولى سياسة تتسم بالانفتاح على القوى الوطنية والنخب المستقلة، ودمجها سياسيا وتمكينها من لعب أدوارها في مختلف دوائر السلطة، وقد بدأ الرئيس المختار هذا التوجه منذ بواكير قيادته للسلطة في البلد، كما عكست ذلك نتائج مؤتمر ألاك 1958، ومفاوضات الطاولة المستديرة
1961، وما تبعها من توحد واندماج، ومرورا بالانفتاح المستمر على الكفاءات الوطنية بتنوعاتها المدرسية، كما حدث نهاية الستينات وبداية السبعينات، مما طعم السلطة بكفاءات خلاقة تركت بصمات مؤثرة، ثم بلغ هذا التوجه الانفتاحي ذروته بدمج المعارضة اليسارية "الكادحين" في حزب الشعب الحاكم وفي مختلف دوائر السلطة.
ورغم المعارضة من داخل النظام لتوجهاته الانفتاحية، فقد نجح الرئيس المختار في التشبث بقناعاته وقيمه الوطنية والأخلاقية ومسؤوليته الجسيمة في حفظ مصالح الدولة وتحقيق العدل بين أبنائها، وتقوية نظامه وتوسيع قاعدة مناصريه مما مكنه من ضبط الإيقاعات المختلفة بما يخدم المصلحة العليا للدولة والمجتمع.
بينما تميز نظام الرئيس معاوية ولد الطايع بالتأسيس لمسار توسيع مشاركة مختلف القوى الاجتماعية الوطنية داخل السلطة، وكسر احتكار السلطة ونفوذها ومنافعها من قبل مجموعات محدودة مما سمح بفتح المجال - لأول مرة - أمام أبناء مختلف طبقات وفئات وقبائل وطوائف المجتمع للولوج إلى مراكز صنع القرار في مختلف المستويات بشكل واسع - نسبيا - مما كان له الأثر العميق والممتد في إعادة مرتنة الدولة وشعور المجتمع بتملكها وإنهاء غربتها الموروثة منذ خروجها من رحم الدولة الاستعمارية.
لقد أسست المشاركة الواسعة لقوى المجتمع في عهد الرئيس معاوية لجملة من القواعد غير المكتوبة، ساهمت في تحقيق الإدماج وضبط التوازنات السياسية والاجتماعية والفئوية والجهوية بشكل حاذق، وحتى ولو تلبس تنزيل بعض تلك القواعد ببعض الأخطاء والمثالب، لكنه ظل مغتفرا سياسيا نظرا لمؤشر البوصلة المتجه نحو الإشراك والإدماج والتوازن.