قبل أن تصبوا جام غضبكم على هذا البدوي المتخلف: اقرأوا المقال كاملا!..
شهدت موريتانيا الحديثة موجات نزوح غير مخططة، شكلت ضغطا على البنى التحتية في العاصمة الوليدة وبعض مدن الداخل، وأربكت مشاريع البناء والتأسيس، وفاقمت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، خاصة في أحياء "التمدن الفوضوي" التي تفتقر لأبسط مقومات الحياة، ومع ما ترتب على غياب الاستقرار في أهم بنيات الدولة - خاصة في السبعينات والثمانينات - فإن حملة موجهة قادها نظام ولد الطائع ضد ما أسماه "التقري الفوضوي" كانت الأسوأ في تقديرنا، ولم تتخذ قرارات تعالج تأثيراتها حتى اليوم!.
لقد كانت قوافل النازحين في السبعينات والثمانينات مضطرة مكرهة في الغالب، بعد أن أهلكت سنوات الجفاف الحرث والنسل، ولم يعد في الريف ما يغري بالبقاء، أما مع أفول الألفية فقد كان أهلنا في الريف ينعمون بالخصب والخير العميم، لذا لم تكن سياسات "التمدن الفوضوي" القسري مفهومة ولا منطقية، وقد دفعنا ثمن آثارها الوخيمة اقتصاديا واجتماعيا في العقدين المنصرمين.
تصوروا معي عائلة قروية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا، تسهم في الاقتصاد والإنتاج الزراعي والرعوي، تجتالها دعوات التمدن الفوضوي، فتبيع أملاكها بثمن بخس وتنزح للمدينة، فلا تكفي عائدات تصفية الأملاك لشراء مسكن لائق فتلجأ لأكواخ الصفيح، وتبدأ هذه العائلة المسكينة دفع فاتورة حياة المدينة من أول يوم، دون أن يكون لها مورد رزق ثابت، ودون أن ييسر لها نظام تحقير الحياة الريفية والقروية دعما أو تأمينا اجتماعيا!.. وفي غضون أشهر تبدأ أمراض المدينة تفتك بالكبار الذين ألفوا صفاء العيش والحركة الدائبة، وربما أقعدهم ذلك فكانوا عالة، أما التعليم الذي يعد المسوغ الأبرز للنزوح فسيبقى حلما بعيد المنال، ولن يكون أولوية لعائلة لا تجد قوت يومها.
القضاء على حياة الريف وما يرتبط بها من نشاطات اقتصادية وإنتاجية كان أثره الكارثي مزدوجا، فبالإضافة للآثار المترتبة على التمدن الفوضوي، وتشتيت ومضاعفة فاتورة الإنفاق الخدمي، فإن سياسات التهجير – هذه – فرغت الريف من خزانه البشري وقواه العاملة، مما عطل الحياة وأبقى جزءا معتبرا من السدود والواحات دون استغلال، وأضعف قلاع التعليم الأصيل، وقد رصدت آثار الظاهرة على مستوى ولاية تكانت خلال السنوات الماضية، فلعله تتاح فرصة الكتابة حول الموضوع بإذن الله.
إن من الجناية اعتبار حياة الريف "تقريا فوضويا"، تطلق البرامج الإعلامية والسياسية لتحقيرهوالتنفير منه، بدل السعي للارتقاء بالاقتصادات الريفية وتثبيت الساكنة، ورفدها بالخبرات والأدوات اللازمة لمضاعفة الإنتاج، والإسهام الفاعل في التنمية الشاملة، لتتكامل المدينة والريف، والاقتصاد التقليدي الجزئي مع الاقتصاد الكلي، فتنمو المدن وتعاد هيكلتها وفق سنة التدرج، فنكسب المدينة ولا نخسر الريف.
وكأني بالريف يتيه خيلاء وهو يرمق أحياء التمدن الفوضوي غارقة في مياه المجاري الآسنة، وأهلها في نزوح عكسي ليسعدوا بحياة الريف النقية الجميلة الهادئة، فينشد في تحسر: أضاعوني وأي ريف أضاعوا، أليس أولى بهم أن يعيدوا لي الاعتبار ويوجهوا جزءا من ميزانياتهم المليارية لمقاربات تنموية ريفية جادة غير تقليدية، بعيدا عن الاستعراض والدعايات السياسية الموسمية الفارغة، فأكون نعم الملجأ إذا شيكت مدينة أو نابتها نائبة، وأبقى كما كنت دائما سلة غذائهم ومورد رزقهم، في انتظار تحقق حلم الاكتفاء، فلا يحتاجون في غذائهم لاستجداء قريب أو غريب.
أما أنت أيها "المدني" المتوثب للرد رافعا صوتك: لا غنى لإنسان اليوم عن التيسيرات والخدمات التي تتيحها حياة المدنية، ولم يعد الواقع يسمح بحياة البداوة والتخلف!.. فجوابي لك: استتر بستر الله:
فلا خيل عندك تهديها ولا مال ** فليسعد النطق إن لم يسعد الحال.
فلا ما تعيشه "حياة مدنية" بالمعنى الصحيح، ولا خدماتك تليق بإنسان اليوم، ولا هي تستوعبنازحي الأمس، فكيف بنازحي اليوم والغد؟!..
موضوع واحد مؤرق لساكنة الريف: إنه التعليم!.. ومع ذلك فمعالجة الملف في غاية اليسر بشرط صدق الإرادة، وتفكير الإدارة خارج الصندوق، كأن تُستحدث منظومة تعليمية موازية تنطلق من واقع واحتياجات ساكنة الريف، فتكتفي – مثلا - ببرنامج تأسيسي ميسر، يتبعه برنامج تأهيلي متخصص،يكسب المهارات والخبرات اللازمة لاقتصاديات الريف، كما يمكن اعتماد طريقة التعليم المرن أو المنزلي فقد حقق نجاحات بعض الدول المتقدمة، فبرامج الــ Home Education أو Home Schoolingستحقق من النجاح في الريف ما لم تحقق في الغرب، لأنها تتيح الحركية والتنقل للطواقم التدريسية، والدراسة في أوقات الفراغ لأبناء الريف