من أطرف ما كتبه الإداري ومدير شركة السنغال ليونار دوران (Léonard Durand) المتوفى 1802م كتابه الصغير "الأطلس المعين إلى السفر نحو السنغال".
ولئن كان القارئ يتوقع أن هذا الأطلس الصغير الذي لا يزيد على 71 صفحة سيحتوي على معلومات جغرافية وخرائط ومسالك طرق، إلا أن مؤلفه لم يتحدث عن ذلك إطلاقا، بل خصص أطلسه هذا لثلاث اتفاقيات عقدها مع قبيلة إدوالحاج الگبلة، ومع إمارتي البراكنة والترارزة بالإضافة إلى خرائط قليلة ورسوم لبعض الأعيان.
وكأني بالإداري الفرنسي ليونار دوران يريد أن يقول لمن سيأتي بعده إلى السنغال من تجار وإدارييين إن هؤلاء القوم المذكورين في الأطلس هم الماسكون بتجارة الصمغ العربي بهذا المكان من إفريقيا، وهم من عليكم أن تتعاملوا معهم. فالأطلس بمعنى ما خارطة طريق تقدم قاعدة بيانات مهمة للتجار الأوروبيين في نهاية القرن الثامن عشر.
والطريف في الأمر أن نص الاتفاقيات الثلاث مكتوب باللغتين العربية والفرنسية، فمواد الاتفاقيات والأشخاص المستفيدون منها مذكورون باللغتين وبشكل متقابل.
وقد نشر هذا الأطلس الصغير شيخ المستشرقين الفرنسيين الشهير سِلفستر دو ساسي (Silvestre de Sacy) المتوفى سنة 1838، وهو الأستاذ بمعهد اللغات والحضارات الشرقية بباريس والشهير في الأدبيات الاستشراقية.
ومع كثرة الأخطاء الواردة في النص العربي، وضعف الترجمة غالبا، وكونها قد كتبها أحد مواطني مدينة سان لويس (اندر) الأفارقة ممن كانت عربيته ضعيفة، ونطقه للحروف العربية متأثر بلهجته الولفية، فإن دو ساسي قد نبَّه إلى أغلب تلك الهنات الحاصلة في الترجمة، كما تعقب بعض الخلل الواقع في نطق الألفاظ العرببة.
ومن أطرف تنبيهات دو ساسي التي لم أسمعها إلا عنده قوله إن أصل كلمة "آمكبل" الواردة في النص العربي، والتي تعني الإكراميات التي كان التجار الأوروبيون يعطونها للأمراء ولشيوخ إدوالحاج، لفظ فرنسي فهي حسب دو ساسي من الكلمة الفرنسية (La gabelle) التي كانت تطلق في عصور سابقة على ضريبة الملح.
ومن الطريف كذلك الحضور الطاغي للمرأة في هذه الاتفاقيات فقد جعلت اتفاقية دوران مع إمارة البراكنة بندا خاصا بزوجة الأمير وإكراميتها وآخر خاصا بأخواته وابنته وإكراميتهن.
وبالنسبة لإمارة الترارزة هناك ذكر لأغلب قبائلها وما كانت تحصل عليه من منافع وذكر الكثير من أعيانهم، وإن كان في كتابة أسماء تلك القبائل وأولئك الأعلام خلل ناتج عن طريقة نطق المترجم لتلك الأسماء وتلك الأعلام. ومن أمثلة تلك الأخطاء التي وقع فيها مترجم النص كتابته لأحد زعماء أهل التونسي من أولاد أحمد بن دمان: امحمد شنوف هكذا (محمت سِنُّوف)، وزعيم أولاد السيد من أولاد أحمد بن دمان: سيدي المختار بن الشرغي العزوني كتبه هكذا (سيد المختار بن سرخ العاجون)، وأهل عتام (عنم)، وأهل عبّله (ابلي)، وأهل آگمتار (عق مختار)... إلخ.
ومن المعلوم أن المؤرخ الفرنسي بول مارتي استفاد كثيرا من هذا الأطلس الطريف، بل نشر مضمونه كاملا في كتابيه عن البراكنة والترارزة. لكنه لم يهتم بتعليقات وتعقيبات دو ساسي المفيدة.
وتعود أول اتفاقية بين التاجر دوران وزعماء هذه البلاد إلى تاريخ 15 أبريل 1785م، وكانت مبرمة مع أمير البراكنة امحمد ولد المختار ولد آغريشي الذي يسميه دوران (Hamet Mocktar). وبعد ذلك بأزيد من نصف شهر وقع دوران اتفاقية مع قبيلة إدوالحاج بمنطقة الگبلة باسم رئيسهم الشمس المختار بن باب الشمس بن المختار بن الأمين بن النجيب، وذلك في 2 مايو 1785، وكان الشمس المختار قد فوض للتوقيع باسمه أحد عشر رجلا من أعيان إدوالحاج من بينهم عمه: محم بونَا بن المختار، وببلو البديري وزين بن امحمد بن الحسين، والمختار بن محمود سوگوفارا... إلخ. وبعد توقيع الاتفاقية مع إدوالحاج بأربعة وعشرين يوما وقع دوران اتفاقية مع أمير الترارزة اعلي الكوري بن أعمر بن اعلي شنظورة بتاريخ 26 مايو 1785م، أي سنة ونصف قبل مصرع الأمير اعلي الكوري الذي سيقتله التحالف الفوتي البركني أي تحالف المامي عبد القادر زعيم فوته والأمير امحمد بن المختار بن آغريشي في أكتوبر 1786م رحمه الله تعالى.