"الحق والخير: قيمتان من القيم العليا، التي تحرص عليهما كل أمة راشدة، وكل ديانة سماوية أو فلسفة أرضية: أن يعرف الناس الحق ويعتنقوه، وأن يحبّوا الخير ويفعلوه .
وأستطيع أن أقول وأنا مطمئن: إن عمل الخير وإشاعته وتثبيته، يعد من أهداف الرسالة المحمدية، ومن مقاصد الشريعة الإسلامية الأساسية" ( يوسف القرضاوي، أصول العمل الخيري في الإسلام في ضوء النصوص والمقاصد الشرعية، دار الشروق، ط الثانية 2008 ص 25) هكذا وصف الدكتور يوسف العمل الخيري، وجعل إياه من مقاصد الشريعة الإسلامية، ليجمل خصائصه -العمل الخيري- في: "الشمول، والتنوع، و الاستمرار، و قوة الحافز، والخلوص للخير" (المرجع السابق ص 33)
لكن الإشكال الذي يطرح نفسه بسبب متطلبات الأمن الاقتصادي و المالي، وضرورة مكافحة تبيض الأموال والتحايل على أصحاب النوايا الحسنة، هو: من يحق له القيام بالعمل الخيري المرتبط بالغير (أي الذي يتطلب الشراكة وجمع تبرعات)؟
إشكال حسمته كل الدول التي اطلعت في إطار بحثي عن هذا الموضوع على قوانينها، إلا أن الأمر ليس كذلك في وطننا الذي مازال يشهد تخلفا في الترسانة القانونية، وفي العقلية الجمعوية؛
ولأهمية هذا الموضوع رأيت أن من الواجب تسليط الضوء عليه، لعلنا بذلك نخلق ثقافة قانونية، ونقف في وجه من يستغل حب الناس الفطري للخير، وسعيه لتشويهه؛
وإن كان هذا الموضوع من المواضيع الشائكة لما يتسم به من خصوصية تبرز بعض ملامحها في تقاعس المسؤول عن واجبه ومبادرة أصحاب النوايا الحسنة إلى مد يد العون لمن يحتاجها، ولارتباطه بأعمال البر التي لا ينبغي -في ذهن العامة- أن تكون ثمت ضوابط تحكمها، ومهما كان فإني سأتصدى لجانب منه وأتطرق لمعالجته من خلال الخطوط العريضة التالية:
أولا: الرقابة على العمل الخيري
ثانيا: آثار عدم الرقابة
أ
ولا: الرقابة على العمل الخيري
عنون المشرع في القانون رقم 04/2021 المتعلق بالجمعيات والهيئات وبالشبكات، المادة 20 منه بـ"رقابة المعونات"
وجاء في نصها: "يلزم أن يكون لكل جمعية حساب لدي مصرف أو لدى أية مؤسسة مالية أخرى وأن توافي القطاع المكلف بالعلاقات مع المجتمع المدني بكشف مالي في أجل أقصاه 31 مارس من السنة الموالية للسنة المالية".
كما يلزمها "التصريح لدى القطاع المكلف بالعلاقات مع المجتمع المدني في أجل لا يتجاوز 90 يوما، بما تحصل عليه من تبرعات".
وتضيف المادة: "تقديم الوثائق التبريرية للنفقات و غيرها من المستندات". إن تطلب الأمر.
كما يجب عليها طبقا للمادة 21 القيام بتقرير سنوي عن الأنشطة.
وجاء في المادة 18 من القانون رقم 017/2019 المتضمن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب: "يجب على كل جمعية لا تهدف إلى الربح وترغب في جمع أو تلقى أو التبرع أو منح أو تحويل أموال أن تسجل نفسها في السجلات المخصصة لذلك.."
وتضيف المادة 22 ما نصه: "تلزم الجمعيات التي لا تهدف الى الربح بمسك سجلات محاسبية مطابقة للقواعد المعمول بها، والالتزام بالشفافية والإفصاح، وبإحالة قوائمها المالية السنوية إلى السلطات المختصة خلال الأشهر الأربعة التي تلي ختم سنتها المالية".
ومادامت فلسفة المشرع، وإجراءات وضوابط المراقبة المالية على العمل الخيري الذي يقوم به الشخص المعنوي تبلغ هذه الدرجة، فينبغي من باب أولى أن تكون كذلك بالنسبة للشخص الطبيعي، وهو ما تفطن له المشرع المغربي الذي منع على الشخص الطبيعي تلقي التبرعات، فقد جاء في الفصل 4 من القانون رقم 004/71 المتعلق بالتماس الإحسان العمومي ما نصه: "لا يمكن أن يؤذن في التماس الإحسان العمومي إلا للمشاريع أو الهيئات الموجود مقرها بالمغرب والمؤسسة بصفة قانونية". بل لا بد -حتى للجمعيات- من إذن جمع التبرعات، (الفصل الأول من نفس القانون) وهو الحال في الجزائر (المادة الأولى من الأمر رقم 03/77) وتونس ومصر والإمارات وقطر..
فما المانع من تأسي المشرع الموريتاني بغيره من التشريعات في هذا الباب الذي يشهد فوضى عارمة، وسد الباب أمام المقتاتين على عواطف أهل الخير وجمعهم بذلك أموالا غير مشروعة؟ وفرضه على أصحاب منصات التواصل الاجتماعي الراغبين في العمل الخيري القيام بهذه الإجراءات التي ستمكن من رقابة على عملهم ومعرفة مآل هذه الأموال؟
التحولات المجتمعية وضرورة مواكبة القاعدة القانونية لسلوك الأفراد داخل المجتمع أمور تفرض على مشرعنا التدخل قبل تدنيس ساحة العمل الخيري، وتحويلها إلى ساحة تحايل وتبييض للأموال..
ثانياً: آثار عدم الرقابة
تتنوع هذه الآثار وتتجلى بالدرجة الأولى في ما جاءت النصوص القانونية الآنفة الذكر لمنعه، لينضاف إلى ذلك:
- تشويه العمل الخيري من خلال الأفعال: وأغلبية هذه الأفعال قد حاربها القانون بشكل صريح سواء على مستوى الشخص المعنوي أو الشخص الطبيعي، إلا أن منها ما لم يطله النص كالإلحاح على المتبرعين، والمبالغة في توصيف الحالات المراد لها جمع التبرع، وإذلال المتبرّع لهم في بعض الأحيان بأمور لا تتماشى مع الإنسانية..
- تشويهه من خلال الأشخاص؛ وليس المقصود هنا الأشخاص الذين يعملون في إطار تنظيمي، وإنما أولئك الأشخاص الذين يفترض -بمنطق القانون المقارن- أن يحظر عليهم القيام بجمع التبرعات؛ فمن يتابع وسائل التواصل الاجتماعي سيتعرف عن قرب على ما يحصل من تشويه لهذا العمل؛ ويتجلى ذلك في القذع المتبادل بين هؤلاء وتخوين كل منهم للآخر فمن يقل الشر على الملإ من السهل عليه فعله في الخفاء، وهو ما يتنافى مع شخصية الساعي في العمل الخيري الذي ينبغي أن يتسم بالخلوص للخير لأن الحوافز قوية، ولأنه لا يقوم بهذا العمل لذاته، فحب الخير للناس والصبر والتواضع ولين الجانب أمور إذا لم تتوفر في شخصية الساعي في العمل الخيري، فإنه حري به أن يعتزل، و بنا أن الا نأتمنه على مساعدات إنسانية..
وكخلاصة: فإننا نعاني كمجتمع من علائق كانت تصاحبنا في المجتمع التقليدي الذي مازلنا نمزج بينه وبين المجتمع المدني في أمور أشبه بجمع النقيضين؛ ولا يقتصر ذلك على جمع التبرعات فحسب، بل يشمل أيضاً طلب المساعدة في الحصول على أدوية قد يكون محظورا تداولها دون وصفة طبية، مما ينتج عنه جرائم كبرى تودي بحياة الناس وإتلاف أموالهم.. فإلى متى ستظل تُرتكب هذه الجرائم تحت يافطة العمل الإنساني، ولماذا هذا السكوت المخجل والتغاضي عن تفعيل ما هو موجود من النصوص وإيجاد ما ليس كذلك؟
محمدن أحمد حمني