بحثا عن تراث هذا الطود الشامخ، وسيرا على دربه في إعلاء شأن ثقافة بلاد شنقيط، وتتبعا لكل ما له علاقة به، تنخلت هذه الترجمة التي تصب فيما تركه من الولد الصالح الذي سار على نهج والده في غرس شجرة وارفة من العلم سقاها وتعهدها حتى أثمرت وحان قطافها من كل علم اشتغل به في حياته، فكان هذا الولد صلة لما انقطع، أوصل العلم هو الآخر إلى أغصان الشجرة الوارفة، فتمددت، وأثمرت وأنبتت: علوم قرآن، وفقه، وأصول وأدب، وأنساب وغير ذلك، فهذا ما وقفت عليه مجسدا من خلال ترجمة نادرة عن حياة الأديب العلامة إبراهيم بن صالح، حصلت عليها من خلال فهرس مخطوطات موريتانيا، التي قامت به جامعة فريبرج الألمانية، سنة 1978، وجاءت الترجمة بقلم: القاضي بيا بن سليمان، فأردت أن أتحف بها جمهورنا الثقافي، وليس لي من فضل فيها إلا التقديم والنقل، وأن أوصل تلك المعلومات الطريفة للذين لا يستطيعون الوقوف على تلك المكتبة التي تضم 2603 من المخطوطات المصورة أغلبها من مؤلفات علماء بلاد شنقيط، ومنهم بلا شك العلامة صالح، فقد ذكرت بعض أشعاره، ومؤلفاته مثل نظمه: الأوليات، وبعض الوثائق، وغير ذلك. وأخيرا هذه هي الترجمة حيث يقول: بيا:
لقد توفي الأديب العلامة إبراهيم بن صالح عن عمر يبلغ 72 سنة بمدينة انواكشوط في 11مارس 1973م.
لقد تربي السيد إبراهيم بن صالح في حجر أبيه العالم الشهير، القاضي، صالح بن الرشيد، وعنه تعلم العلوم حتى تخصص في علم القرآن، والفقه، ثم درس النحو واللغة على أستاذه الأديب المشهور محمد سالم بن الشين إجكودجي رحمه الله.
وكان السيد إبراهيم بن صالح مشهورا بمعرفة الفنون الأدبية، حكاية وشعرا في جميع العصور، الجاهلي، والإسلامي، من أموي والعباسي، وانحطاطي، ونهضوي، كما اشتهر بمعرفة التاريخ، فكان فيه خلدونيا.. وكان رحمه الله قدوة نسابة مشهورا بمعرفة أنساب العرب عدنانييها، وقحطانييها لاسيما في أنساب القبائل الموريتانية، فكان يحفظ الحسوة البيسانية في الأنساب الحسانية لجده العلامة الكبير صالح بن عبد الوهاب، وصحيحة النقل في بكرية الأقلال وعلوية إدوعل، للعلامة مجتهد عصره سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم، وغيرهما كتأليف شيم الزوايا للديماني. وكان رحمه الله مُفْتنا بحفظ الشعر، ولوعا بإنشائه وحكايته، وبظرفه وملحه الأدبية.
هذا ولما توفي والده تقلد خلافته الرئاسية، وكان رئيسا لفخذ أهل عبد الوهاب من قبيلة أولاد الناصر، ولقد تقرى بقريته اللَّبَيبَ، سنة 1957م، وكانت محط رحال الغرباء، والفقراء، والأرامل، والمساكين. ويقول الكاتب هذه الأبيات مرثية له:
دَمْعُ العُيونِ من العُيونِ مذْرُوفُ يَنْعِي من بالعُلَى والعلْمِ موصُوفُ
لقد نعى إبراهيم الردى أفٍّ لـــــــه نعيا عليه من المذياع مأســــــــــــــوف
من الأرامل والأيتام مسغبـــــــــــــــــة ومن لجار ومن بالدار ملهـــــــــــــوف
ضيف لديك قراهُ رب مغفـــــــــــــرة إذ أنه بالقرى للضيف مألــــــــــــــــــوفه
إن هذه الترجمة هي جزء من تراث العلامة محمد صالح بن عبد الوهاب الذي جسده الأبناء كما قلنا، فهي ترجمة واضحة للحديث الشريف: إِذَا مَاتَ اِبْن آدَمَ اِنْقَطَعَ عَمَلُهُإِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَه بالخير.
أضيف هنا إلى أن مثل هذه التراجم التي يعثر عليها في المصادر تتحدث بواقعية وصدق عن الأحداث، ومراحل الحياة الثقافية للمترجم لهم، فهي تسد ثغرة طالما عانى منها من يحاول أن يكتب تاريخ بلدنا هذا، والذي نعمل من خلال ما نقف عليه من تلك الأحداث، وما نسجله في مثل هذه المقالات أن نساعد من هم أكثر منا تخصصا، وتمكنا من المناهج التاريخية التي يجب أن يسجل بها تاريخنا الثقافي، ويقدم للعين الباصرة، والرؤية النقدية، حتى تتنخل منه ما يجب أن يتنخل، ويثبت باعتباره تاريخ هذا الوطن الكبير.