استعرضنا في الجزء السابق مقارنة سريعة بين أوكرانيا والعراق من حيث المساحة وعدد السكان وبعض المؤشرات الاقتصادية وكذلك بين حجم قوات البلدين والقوات التي غزتهما والأسباب المعلنة لإشعال الحربين.
ونكمل في هذا الجزء بتوضيح بعض الجوانب من تعامل الغرب مع الحالتين، فالأصل أن الدولتين تعرضتا لغزو خارجي بدون سند قانوني ولذلك ينبغي التعامل مع الدول الغازية بالطريقة نفسها لكن الذي حصل أن الدول الغربية شارك بعضها في العدوان على العراق وبعضها بقي متفرجا، أما أوكرانيا فقد تلقت أشكال الدعم المختلفة من الولايات المتحدة وأوروبا ودول أخرى.
الدعم الغربي لأوكرانيا
العقوبات
على المستوى المالي فرض الغرب عقوبات متنوعة ضد روسيا شملت تجميد أصول البنك المركزي الروسي، مما حد من قدرته على الوصول إلى 630 مليار دولار من احتياطاته.
ومنعت بريطانيا، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة المواطنين والشركات من إجراء أي تعاملات مالية مع البنك المركزي الروسي أو وزارة المالية الروسية أو صندوق الثروة السيادي الروسي.
وتضمنت العقوبات إبعاد بعض البنوك الروسية عن نظام سويفت الذي يسمح بتحويل الأموال بشكل سهل بين الدول المختلفة، وهو الأمر الذي سيعيق قدرة روسيا على الحصول على عائدات بيع نفطها وغازها.
وفرضت بريطانيا عقوبات إضافية على موسكو منها:
- استبعاد البنوك الروسية الكبيرة من النظام المالي البريطاني.
- تجميد أصول كافة البنوك الروسية
- إصدار قوانين لمنع الشركات والحكومة الروسية من الحصول على أموال من الأسواق البريطانية.
- وضع حد أقصى للمبالغ المالية التي يمكن للروس إيداعها في البنوك البريطانية.
وفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات استهدفت 70% من السوق المصرفية الروسية وكبريات الشركات المملوكة للدولة الروسية.
كما استهدفت العقوبات الغربية عددا من الشخصيات البارزة في روسيا، يأتي على رأسها الرئيس فلاديمير بوتين ووزير خارجيته.
أعلن الاتحاد الأوروبي عن حزمة جديدة من عقوبات إضافية متنوعة ضد روسيا
· حظر اقتناء واستيراد ونقل الفحم وغيره من أنواع الوقود الأحفوري الصلب إلى الاتحاد الأوروبي اعتبارا من أغسطس القادم إذا كانت هذه المواد روسية الصنع أو مصدرة من روسيا،
· حظر دخول السفن التي تبحر تحت علم روسيا إلى موانئ الاتحاد الأوروبي
· منع شركات النقل الروسية والبيلاروسية من نقل البضائع برا داخل الاتحاد الأوروبي أو عبره.
الدعم المالي والاقتصادي
إضافة إلى العقوبات قدمت الدول الأوروبية والولايات المتحدة دعما ماليا واقتصاديا سخيا لأوكرانيا ومن ذلك إعلان المستشار الألماني، أن بلاده خصصت 2 مليار يورو للسلطات الإقليمية لدعم اللاجئين الأوكرانيين ونصف مليار يرو يخصص للسلطات المحلية لمواجهة التكاليف المرتبطة بإيواء اللاجئين.
وكذلك إعلان وزيرة الخارجية البريطانية عن استعداد بلاده لضمان قروض تصل قيمتها إلى 500 مليون دولار لدعم أوكرانيا وتخفيف الآثار الاقتصادية للعدوان الروسي.
الدعم السياسي والدبلوماسي
طردت الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية مجموعة كبيرة من الدبلوماسيين الروس تضامنا مع أوكرانيا.
وفي الأمم المتحدة صوتت الجمعية العامة 3 مرات ضد روسيا، وقررت الجمعية العامة في تصويتها الثالث تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان.
هذا فضلا عن الاتصالات السياسية المستمرة والجولات المكثفة للمسؤولين الأوكرانيين في العالم وزيارات كبار المسؤولين الأوروبيين لأوكرانيا التي كان آخرها زيارة رئيس وزراء بريطانيا لكييف.
وإضافة لذلك كانت أبواب البرلمانات في أوروبا وفي غيرها مشرعة عن بعد للرئيس الأوكراني لشرح قضيته.
الدعم العسكري
نشطت الولايات المتحدة والدول الأوروبية في تزويد أوكرانيا بالأسلحة المتطورة وفي هذا السياق أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن عن دعم لأوكرانيا يشمل مساعدات عسكرية جديدة بقيمة مليار دولار مع إرسال أسلحة ذات مدى أبعد.
واستفادت أوكرانيا من دعم عسكري حتى من بعض الدول المعروفة تاريخيا بالحياد مثل السويد، التي لم تقدم مساعدات عسكرية لأي دولة في حالة حرب منذ غزو الاتحاد السوفياتي لفنلندا عام 1939، كما أن ألمانيا التي ظلت تتبع سياسة تقديم مساعدات غير قاتلة فقط لمناطق الصراع حول العالم، تغاضت عن هذه السياسة، وهي تعلن كل أسبوع تقريباً عن تقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا، وقد أعلن وزير خارجية ألمانيا عن تخصيص مليار و100 مليون دولار مساعدات عسكرية تتحمل ألمانيا جزءاً كبيراً منها.
أما مساعدة بريطانيا فتضمنت 25 مليون جنيه للجيش الأوكراني، بالإضافة إلى 6000 صاروخ موزعة بين صواريخ مضادة للدبابات وصواريخ ذات قدرة انفجارية عالية.
الدعم القانوني
بدأت أصوات كبار المسؤولين في الغرب تدعو لتقديم المسؤولين عن المجازر في أوكرانيا إلى العدالة ووصف الرئيس الأمريكي بوتين بأنه مجرم حرب.
وعقدت محكمة العدل الدولية في لاهي جلسة بناء على طلب أوكرانيا وأصدرت بيانا جاء فيه:
"يجب على الاتحاد الروسي أن يعلق على الفور العمليات العسكرية التي بدأت في 24 فبراير/ 2022، والتي كان هدفها المعلن منع ومعاقبة إبادة جماعية مزعومة في لوهانسك ودونيتسكوبلاست في أوكرانيا". وتم تأكيد القرار المبدئي بأغلبية 13 صوتا مقابل 2 ولم يصوت ضد القرار سوى القاضي الروسي والقاضي الصيني.
الغزو الأمريكي البريطاني للعراق
بين الكذب والاعتراف بالكذب
لنفترض جدلا أن غزو أمريكا للعراق كان يستند إلى مسوغات قانونية صحيحة وأن أمريكا كانت في حال دفاع عن النفس افتراضا مع أن كل حججهم لا تنهض ولا تستقيم ولكن ما ذا نقول عندما يعترف قادة العدوان بأنهم أخطأوا وعبر بعضهم عن ندمه. سنستعرض في هذه الفقرات مقولات لبعض سماسرة العدوان لنعرض بعد اعترافهم بأخطائهم وأن كل ما ادعوه لم يكن صحيحا وهذا ما أكدته لجان تحقيق متخصصة وأجهزة رسمية عالية المستوى.
سنبدأ بتصريح رامسفيلد الذي جزم بوجود الأسلحة وبمعرفة مكانها: (نعرف أين أسلحة الدمار الشامل، إنها في المنطقة حول تكريت وبغداد وشرقها وغربها وجنوبها وشمالها).
أما قائد الأوركسترا كولن بأول، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، الذي مثل تلك التمثيلية المشهورة في الأمم المتحدة قبيل الغزو فقد قال: (كل تصريح لي اليوم يستند إلى مصادر قوية هذه ليست تأكيدات. نحن نقدم لكم حقائق واستنتاجات تستند إلى استخبارات قوية).
لكن باول جاءته "صحوة ضمير" بعد أن دمرت أمريكا العراق واعترف بأنه أخطأ ووصف دفاعه عن تقرير بلاده حول أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة أمام الأمم المتحدة في فبراير 2002 بأنه "وصمة عار في مسيرته السياسية"، بل إنه أقر بأن الأمر "مؤلم" وزاد من اعترافه ليقول: "لقد دمرني ذلك".
أما الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون فقد قال في مقابلة نشرتها مجلة تايمز في يوليو 2004 إنه كان من الأفضل التريُّث في بدء الحملة العسكرية لحين إكمال فريق هانز بليكس لمهامه في العراق.
وذكر موقع محيط للأخبار في نشرته الصادرة يوم 7 يونيو 2008 أن لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ الأمريكي أقرت في سابقة هي الأولى من نوعها تقريراً مكتوباً يوجه اللوم بشكل مباشر إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش وإدارته بتهمة إساءة استخدام المعلومات الاستخباراتية لتبرير حرب العراق.
أما توني بلير خادم بوش المطيع فقد قال قبيل الغزو (ابريل 2002): "نظام صدام حقير، يطور أسلحة الدمار الشامل. إنه تهديد لشعبه، ولنا أيضا إذا أتيح له تطوير مثل هذه الأسلحة".
لكن بلير هذا المتحمس الذي جزم بأن العراق يطور أسلحة الدمار الشامل وساهم بنشاط مع بوش في تدمير العراق انتابته هو أيضا "صحوة ضمير" وإن كانت تأخرت، حيث عبر في شهر يوليو 2016 عن أسفه و"حزنه" وقدم "اعتذاراته"، بعد نشر تقرير ينتقد بقسوة قراره إدخال بريطانيا في حرب العراق عام 2003. وقال بلير: "كان ذلك القرار هو الأكثر صعوبة الذي اتخذته، وقمت بذلك بحسن نية" وقال أيضا: "أنا أتحمل كامل المسؤولية وأعبر عن ألمي وأسفي وأقدم اعتذاراتي".
تقرير لجنة التحقيق البريطانية
بعد 7 سنوات من تشكيل اللجنة نشر رئيسها جون تشيلكوت تقريرا يوضح أن نظام صدام حسين لم يكن يشكل خطرا على المصالح البريطانية وأن الحرب التي شنتها المملكة المتحدة والولايات المتحدة ضد العراق في 2003 لم تكن ضرورية.
وقال رئيس اللجنة جون تشيلكوت في الندوة الصحفية التي قدم خلالها التقرير: "استنتجنا أن بريطانيا قررت الانضمام إلى اجتياح العراق قبل استنفاد كل البدائل السلمية للوصول إلى نزع أسلحة البلاد، بينما لم يكن العمل العسكري آنذاك حتميا".
واعتبر تشيلكوت أن الحكومة البريطانية "أسهمت في تقويض سلطة مجلس الأمن الدولي عبر المشاركة في تدخل عسكري غير مدعوم منه".
وتحدث التقرير عن تجاوز الإدارة البريطانية ما تنص عليه الأمم المتحدة للحفاظ على الأمن والسلام الدوليين رغم ادعائها أنها تتحرك "نيابة عن المجتمع الدولي"، وذكر أن المحامي العام وقتها اللورد غولد سميث لم يتحدث عن وجود أي أساس شرعي للحرب ضد العراق.
رأي بوش
على الرغم من اعتراف مهندسي الحرب و"ندمهم" على دورهم فيها مثل كولن بأول وتوني بلير ورغم تقارير الجهات المختصة في الدولتين التي أكدت عدم وجود مسوغ صحيح لهذه الحرب إلا أن بوش تمسك برأيه بصواب العدوان مثبتا أن غزو العراق كان عن ترصد وسبق إصرار حيث صرح يوم 2 أغسطس 2004 قائلا: "حتى لو كنت أعرف قبل الحرب ما أعرفه الآن من عدم وجود أسلحة محظورة في العراق فإني كنت سأدخل العراق".
وهكذا اعترف مهندسو العدوان على العراق بكذبهم وفضحوا أنفسهم مع أن الأمر كان واضحا منذ البداية فقد قرر بوش وبلير العراق تدمير العراق واختلقوا أسبابا واهية واعترف بوش بأنه كان سيدخل العراق على أية حال. دمروا العراق وأعدموا رئيسه وكبار مسؤوليه وقتلوا مئات الآلاف من أبنا الرافدين وتذهب بعض الإحصائيات على أكثر من مليون وأحدثوا فيه فتنة طائفية ليستمر القتل والتدمير بعد رحيلهم إن كانوا رحلوا..
وإذا عدنا إلى المقارنة بين الحالتين الأوكرانية والعراقية فسنجد الفرق شاسعا، فرئيس العراق كان على قائمة المطلوبين للمحتلين واعتقل وشنق أما رئيس أوكرانيا فمرحب به في الغرب وفي غيره، وجيش أوكرانيا تصله الأسلحة المتطورة على مدارة الساعة أما جيش العراق فلا يصله من الأسلحة سوى ما يباد به .
وفي أوكرانيا يتحدث الغرب عن جرائم الحرب التي تستحق يستحق مرتكبوها المحاكمة وكان بيان محكمة العدل في لاهي من الخطوات الجادة في هذا الاتجاه أما في العراق فبدل محاكمة الغزاة المحتلين فكانت المحاكمات من نصيب أبناء البلد الضحية. فأمر غزاة العراق لا يعني محكمة العدل الدولية ولا المحكمة الجنائية الدولية على ما يبدو.
وهكذا نجد أن الغرب استخدم كل الوسائل لمعاقبة روسيا ونصرة أو كرانيا أما أمريكا وبريطانيا ومن تبعهما من الكومبارس فلا نسمع عن أحد في الغرب طالب بمحاكمة المسؤولين عن الغزو وعن جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم التعذيب كما حدث في سجن بوغريب ، ولم نسمع مسؤولا غربيا واحدا وصف لوش بأنه مجرم حرب.
ولم نسمع عن دولة دعت لمقاطعة أمريكا أو بريطانيا أو طردت بعض دبلوماسيي دول العدوان.
ولذلك فإذا رأيتم أمريكيا أو بريطانيا يتباكى على الجرائم في أوكرانيا فقولوا له وماذا عن دماء العراقيين الذين دمرتم دولتهم بالحصار أولا ثم بحرب إبادة شاملة مع ترصد وسبق إصرار..
إنه الغرب وقوانين الكيل بمكيالين أو أكثر..
ومن النكت "الظريفة" في موضوع ازمة أوكرانيا كلمة وزير خارجية إسرائيل حيث كتب: "لا يمكن تجاهل الصور المروعة لمدينة بوتشا الأوكرانية، وإيذاء المدنيين جريمة حرب ندينها بشدة".
فلعله نسي أن تلك الصور أقرب منها صور ما ارتكبته إسرائيل من تدمير وقتل وتهجير وحصار في غزة وجنين وفي كل فلسطين منذ أكثر من 70 سنة.
ليس الهدف من هذه المقارنة تسويغ ما تقوم به روسيا في أوكرانيا أو تجاهل مأساة الأوكرانيين إنما الهدف هو إظهار نفاق الغرب وكيله بأكثر من مكيال ومحاولة توضيح كيف تعامل الغرب مع الحرب في أوكرانيا بصورة مختلفة مع الغزو الأمريكي البريطاني للعراق.
وصلى وسلم على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين