تشير أدلة متنامية إلى أن الحكومات التي تتمتع بمزيد من الشفافية في تسيير صفقاتها العمومية، يكون أداؤها المالي أفضل وتعاني مستويات أقل من الفساد، وأن التسيير الجيد للصفقات العمومية، يُسهم في النمو عالي الجودة، وتقديم الخدمات العامة بكفاءة، واستقرار الاقتصاد الكلي. كما تمتد المزايا إلى مجالات أخرى، كالإبداع و خلق الوظائف من خلال خلق جو مناسب للمنافسة الإجابية. و العكس صحيح، كلما كان العبث بالصفقات العمومية و الفساد المالي موجودا، كان التخلف و البطالة وتدني مستويات الدخول و الفقر.
هذا يجعلنا نتعامل مع الصفقات العمومية بجدية أكثر، و نتعرف على مكامن صناعة الفساد، و السعي إلى سد الثغرات و تصحيح الخلل، و الاستفادة من التسيير الجيد للصفقة العمومية.
الصفقة العمومية : هي عقد معاوضة مكتوب مبرم وفق الشروط الواردة في قانون رقم 2010 – 044 صادر بتاريخ 22 يوليو 2010 المتضمن مدونة الصفقات العمومية، يتعهد بموجبه المقاول أو المورد أو موفر الخدمات اتجاه الأشخاص المعنوية العمومية الواردة في المادة 3 من هذا القانون ، بتنفيذ بعض الأشغال أو توفير بعض التوريدات أو الخدمات مقابل
ثمن.
و يجب أن تشمل الصفقة العمومية كل المشتريات، و أن تُضَمّنَ في المخطط المرسل إلى لجنة رقابةالصفقات.
مراحل تهيئة و إعتماد الصفقة العمومية.
يمر إعداد الصفقة العمومية بالخطوات التالية:
1 - إعداد المخطط السنوي للصفقات المبرمجة، و ذلك عن طريق الوزارة المعنية مع وزارة المالية. ( جميع الصفقات المبرمجة للتنفيذ )؛
2 - بعد المصادقة على الميزانية يتم إرسال المخطط السنوي للصفقات، إلى لجنة إبرام الصفقات المعنية؛
3 - تتم دراسة المخطط و المصادقة عليه من طرف لجنة إبرام الصفقات العمومية؛
4 - يتم ارساله إلى لجنة رقابة الصفقات العمومية من أجل الموافقة عليه؛
5- يتم بعد ذلك إرسال المخطط إلى السلطة المتعاقدة، من أجل نشره في وسيلة إعلامية ذات سمعة، لمدة شهر على الأقل من أجل أن يكون جاهزا لإعلان أول مناقصة عليه، إلا في الحالات الإستثنائة، و تكون جهة رقابة الصفقات العمومية موافقة على الحالات الاستثنائية؛
6 - بعد النشر يتم إعداد ملف للمناقصات و إرساله تباعا حسب المخطط المبرمح، إلى لجنة إبرام الصفقات العمومية؛
7 - يتم فحص ودراسة ملف المناقصة، من طرف لجنة إبرام الصفقات، وهي المخولة لاعطاء إذن اعلان او انطلاق المناقصة فى السقف المالى المحدد لها أو بعد الموافقة من طرف لجنة المراقبة فيما يخص الصفقات التى تمر عن طريق لجنة رقابة الصفقات العمومية،
يتم بعد ذلك نشره في موقع اعلامي مقروء، و لا يمكن فتح ملفات قبل إكمال 30 يوم في حال الصفقة الوطنية، و 45 يوم في حال الصفقة الدولية.
بعد فتح الملفات، يتم تعين لجنة للتقويم يعهد إليها بتقويم الملفات، (احترام الشروط الصفقة ، الدراسة الفنية للملفات، الدراسة المالية ، معايير تأهيل المرشحين، .....).
بعد هذه الخطوات يتم إرساء الصفقة على المقاول أو المورد أو مسدي الخدمات ليتم تنفيذها وفق دفتر الإلتزامات الخاص بها.
الفساد المالي: هو مخالفة القواعد والأحكام المالية من أجل الحصول على مكاسب مادية غير مشروعة، أو مخالفة قواعد السلوك من قبل الموظفين في مؤسسة ما وذلك لحصولهم على منفعة مالية.
و الفساد المالي مرتبط بدرجة كبيرة بوجود الصفقة، و يمكن أن يبدأ مع أي مرحلة من مراحل تهيئتها، و يمكن أن يرافق الصفقة في جميع مراحل إنشائها و مراحل تنفيذها.
و في بلدنا أكثر من 60% من الصفقات العمومية، لا يصل إلى لجان الصفقات العمومية المختصة، بسبب تفكيك الصفقة أثناء إعداد المخطط حتى لا تصل إلى المبلغ الذي يقع ضمن صلاحيات لجان الصفقات العمومية، أو يتم منحها على أساس التراضي، أو تنازل الجهة المستفيدة من صفقة التراضي لصالح مؤسسة أخرى، أو تحت طائلة الإستعجال، وهذا التصرف منافي للقانون، لأنه حدد الشروط التي تمنح بها صفقة التراضي في النقاط التالية:
١ - الآثار المترتبة على الأحداث الغير متوقعة من كوارث طبيعية، أو خارجية....
٢ - المؤسسة العمومية التي تقع تحت رقابة الوزارة يمكن أن تمنحها صفقة عمومية بالتراضي؛
٣ - الصفقة المكملة بنفس الشروط وبنفس السعر يمكن للمقاول أن يستفيد من إتمام المشروع بالصفقة بالتراضي؛
٤ - في حالة ترخيص الخدمة عند جهة واحدة هي التي تمتلك حق الملكية؛
٥ - في حالة السرية، بعد مصادقة مجلس الوزراء على منح الصفقة بالتراضي.
كما أن القانون سمح للتنازل عن نسبة 30% فقط من إجمالي الصفقة العمومية الممنوحة بالتراضي لصالح جهة أخرى.
أما منح الصفقة بمبرر أن الحالة إستعجالية: فلا وجود لها هي الأخرى في القانون الحالي، إنما آثار الكارثة أي بعد وقوعها هي التي تبرر الإستعجال.
هذا التخندق وراء هذه المبررات ( التفكيك، منح الصفقة على أساس التراضي، أو التنازل عنها لصالح جهة أخرى، أو إعطاؤها بمبرر الإستعجال... ) أساليب تساهم في صناعة الفساد و سرقة المال العام، كانت السبب في ضياع الكثير من المليارات، و تأخر تنفيذ المشاريع، و في وجود أكثر من ثلث لجان الصفقات العمومية، تنتهي السنة المالية دون أن تحول لها سوى صفقة واحدة أو إثنتين على الأكثر، و قد لا تحول لها أي صفقة عمومية.
و الفساد لا يقتصر على مسييري المال العام، فقد يعتري لجان الصفقات نفسها، فالصلاحيات الزائدة لرؤساء لجان إبرام الصفقات العمومية، فالرئيس هو المسؤول الوحيد، و الأعضاء مجرد هيئة إستشارية دون مسؤولية، و يحق له تعليق عمل لجنة التقويم التي لا توافق رأيه، و تعين لجنة أخرى، هذا الإفراط في الصلاحيات يمكن رئيس لجنة إبرام الصفقات من ترجيح من يشاء من مقدمي العروض،
هناك شطط كبير في الصلاحيات المعهودة إلى سلطة التعاقد فيما يخص بالمتابعة، مما نجم عنه الكثير من التأخر في تنفيذ الصفقات، و حتى وجود عيوب صادمة في المنجز، مما يستوجب مراجعة شاملة بموجبها يتم التأكد من تنفيذ جميع مراحل الصفقة بالطريقة المتعاقد عليها.
كما أن عدم تنسيق العمل بين لجان الصفقات العمومية و الإدارة العامة للضرائب، يخلق بيئة ملائمة للتهرب الضريبي،و تضيع فيه موارد مالية كبيرة، لأن رقم الأعمال المقدم للجان الصفقات العمومية حقيقي دائما، أما ما هو معلن للإدارة العامة للضرائب فيتم التحايل عليه.
على ضوء ما سبق و بعد المصادقة على قانون الصفقات العمومية الجديد، و بهدف أن نحسن من أداء لجان الصفقات، نوصي بما يلي:
*وضع آلية بموجبها يتم تنسيق العمل بين لجان الصفقات العمومية و الإدارة العامة للضرائب، تمكن هذه الأخيرة من الإطلاع على رقم الأعمال الحقيقي، للمترشحين للحصول على إبرام الصفقات؛
* منح إستغلالية مالية تامة للجان إبرام الصفقات العمومية، لأن التبعية المالية ينجر عنها الكثير من الضغوطات و الإنصياع، يعيق العمل بحرية و مهنية، على أن تظل التبعية الإدارية موجودة و تظل لجنة إبرام الصفقات جزء من السلطة المتعاقدة؛
* وضع معاير واضحة و غير قابلة التأويل للبعد الاستعجالي؛
*مضاعفة الرقابة و خاصة الرقابة البعدية للتأكد من سلامة الإجراءات؛
* إستحداث آلية جديدة للمتابعة، يعهد لها متابعة المشاريع و التسليم، بالإضافة إلى إعطاء دور أكبر للجان إبرام الصفقات العمومية في المتابعة و التسليم، فترك الحبل على القارب لآمري الصرف في موضوع المتابعة والتسليم كان له كبير الأثر في تأخر التنفيذ و وجود نواقص كبيرة في تسليم المنتوج النهائي.
تنبيه:
نعيش في هذه الأيام من سنة 2021، فوضى عارمة و سباق محموم لصرف ما تبقى من ميزانية 2021، مما يتطلب التدقيق في هذا الصرف، و دورا فعالا للمفتشية العامة للدولة في ثوبها الجديد، بعد تحررها من التبعية للجهاز الحكومي، و معاقبة من ثبت فساده، ليعتبر به كل من كان مسؤولا عن صرف أوقية واحدة من ثروات الشعب.
د محمد الأمين شريف أحمد