لئن كانت الرؤية المستقبلية الواعدة ، و الطموحة التي أعلن عنها فخامة رئيس الجمهورية في برنامجه الانتخابي شكلت المرجعية الأساسية للتعهدات التي قطعها على نفسه وعدا ناجزا ، فإنها في الآن ذاته سهلت على المهتمين، و المتطلعين إلى غد أفضل استشراف ذلك الغد الزاهر للبلاد دون كبير عناء أو إعمال فكر ، و ذلك بفضل ترسُّم و تتبع تلك التعهدات خطوة خطوة على أرض الواقع، و في ميادين التطبيق ، و لقد ظلت خطابات فخامته تنير درب التطلعات المستقبلية ،و تنبه على ما تحقق من منجزات و كأنها أعلامٌ شاخصة و مراجعُ فاصلة و شهودُ صِدْقٍ بين سِفْرَيْ التعهد النظري و المنجز التطبيقي .
و لأننا قطعنا أشواطا كبيرة في فِهْرس التعهدات و تطبيقاته الماثلة على أرض الواقع ، و قد سالت مختلف الاقلام الراعفة على أودية الصفحات تثمينا و إشادة على مدى ما يزيد على السنتين ، كفاني ذلك مؤونة الحديث عنه في هذا المقال ، الذي أردته خيطا ناظما لبعض الفرائد الفكرية و الفوائد المعنوية و المادية التي أفصحت عنها الخطابات الثلاثة الأخيرة لرئيس الجمهورية " خطاب ذكرى الاستقال 61 ، خطاب مدائن التراث بوادان 10/12/2021 ، خطاب فخامته خلال إشرافه على إطلاق برنامج خاص لدعم التشغيل و التكوين و الدمج المهني بتاريخ 16/12/2021 " تلك الخطابات التي أُطلِقُ عليها استعارة ـ إن جاز لي ذلك بلغة رمزية ـ " ثلاثية الأبعاد " ذلك أنها شكلت مجموعة من المحاور و الأبعاد الهامة المُجسمة لِما تعنيه و ترمي إليه ، و هي بذلك علامة فارقة في تاريخ تجسيم الواقع ، و وضع اليد على مواطن الخلل ، و توصيف العلاجات ، و اتخاذ أفضل الطرائق للوصول إلى الأهداف المأمولة . بكل اختصار هذه الثلاثية تؤسس لمرحلة جديدة من تاريخ البلد يتأسس عليها كل ما بعدها ، و تقف سدا منيعا أمام أي إرث سلبي لا يتماشى مع نظرتها البعيدة ، و أبعادها الواضحة .
و لمَّا كانت الأمور بخواتيمها و مآلاتها فإنني أقتبس الفقرة التالية من خطاب فخامة رئيس الجمهورية في ذكرى الاستقلال 61 و التي و ردت في نهاية الخطاب ، حيث يقول : " أيها المواطنون أيتها المواطنات : بالأمس القريب عولتُ عليكم في إنجاح رؤيتنا المستقبلية لهذا البلد ، فلم تخيبوا ظنا ، و اليوم أعوِّل عليكم من جديد لترجمتها واقعا ملموسا من أجل أن نبني معا الوطن الذي نريده جميعا : وطن لا هشاشة فيه ، و لا إقصاء ، وطن الحرية و الكرامة ، و التنمية الشاملة و المستديمة ".
بهذه الكلمات الدَّفَّاقة واءَمَ فخامته بين الآمال و الطموحات ، و بين الدعوة إلى النزول إلى أرض الميدان و عالم التجسيد ، و هي تختصر كل ما عناه في الخطابات الثلاث و طُبِّقه عمليا ، و لأنَّ هذه الطموحات تحتاج عزما و حزما ، و قوةَ تَحمُّل و صلابةً فقد التفت فخامته مناديا الشباب الذي هو ساعد الأمة و محرك عجلة البناء مستنهضا " ...إنَّ المعوَّل عليه في ذلك بعد الله سبحانه و تعالى هو بالدرجة الأولى شبابنا العزيز ، فأنتم أيها الشباب قلب أمتنا النابض ، أنتم عماد حاضرها ، و عُدَّةُ مستقبلها " ، بل ذهب أبعد من ذلك إلى زيادة الدافعية لدى هذه الفئة مُحفزا و مبشرا بغد أفضل ، حيث تعهد بإرساء بنية تعليمية عالية الجودة ، و التمكين من ولوج سوق العمل ،و المشاركة في صنع القرار ، بل لم يُفوت فرصة الدعم المادي و النزول إلى تطلعات هذه الفئة و مَدِّ العون و الدعم لها فأعلن في أحد الخطابات المنوه عنها:
*تخصيص سقف مالي مقتطع سنويا من الميزانية العامة للدولة مقداره 20 مليار أوقية قديمة لتسريع وتيرة تكوين الشباب و تنمية مهاراتهم ، و تسهيل ولوجهم لسوق العمل .
*دفع منحة للخريجين الباحثين عن العمل لمدة ستة أشهر قدرها 20 ألف أوقية قديمة للجامعيين و 15 ألف أوقية لخريجي المعاهد .
*الإعلان عن إطلاق " مشروع قابلية التشغيل " سيوفر تكوينا لستين ألف شاب بتمويل قدره 14 مليار أوقية قديمة .
*إعادة هيكلة المجلس الأعلى للشباب بغية تمكين هذه الفئة من التواجد في جميع الدوائر المعنية بقضاياها ، بل المشاركة في رسم و اتخاذ بعض القرارت الهامة .
إن هذه الإجراءات تدخل ضمن ما ألمحتْ إليه الفقرتان السابقتان من خطاب فخامته حول دمج كل الشباب بل كل الفئات المستهدفة و نبذ الإقصاء أيا كانت دواعيه و أسبابه ، و في هذا السياق لا يمكننا أن نغفل دعوة فخامته إلى نبذ الشرائحية و الفئوية و كل أشكال الطبقية خلال خطاب مدائن التراث بوادان ، و دعوته إلى قطع الصلة بالرواسب التي تُغمِط بعض الفئات الفاعلة قديما و حديثا حقها و تقلل من شأنها فلو أنصف الدهر لكانت في طليعة المجتمع ، و ذلك لِما عُرف عنها من التفاني في خدمته و الاخلاص له ، كما نوه إلى أن الدولة كفيلة بإحقاق الحق و ردِّ المظالم ، و تكريس ثقافة المواطنة ، و تعزيز المساواة و بسط العدالة ، بعيدا عن التخندق القبلي ، و الولاءات التقليدية .
كل ذلك يعتبر نتائج لإجراءات و خطوات هيأت الأرضية المناسبة للوصول إليها فقد ظلت جهود فخامته مكرسة خلال الفترة الماضية " لتحقيق العدالة الاجتماعية بمكافحة الفقر و الهشاشة و الغبن و الإقصاء ، و على بناء تنمية مستدامة "و في سبيل ذلك تحقق الكثير من الإنجازات الواعدة ، في ظل الظروف السلبية العالمية الاستثنائية .
و حتى لا تذهب تلك الانجازات هدرا فقد أعلن فخامته عن إرساء حكامة رشيدة ، و عن محاربة كل أشكال الفساد ، و اتخاذ إجراءات قانونية تحمي موارد الدولة من الهدر و التبديد ، و تُوقِع الجزاءات المناسبة على كل المفسدين ، و في سبيل ذلك تم تعزيز استقلالية السلطتين : القضائية و التشريعية و تحديث مدونة الصفقات العمومية ، و تكثيف نشاط أجهزة الرقابة و التفتيش .
كل ذلك و غيره الكثير لا يتسع المقام لذكره تم في جو يطبعه الهدوء و السكينة ، و الدعوة إلى تضافر الجهود و نبذ الفرقة ، و العمل بروح الفريق الواحد و السير في طريق خدمة وطن يجمعنا ، و إن اختلفت المشارب فالأهدف واحدة ، لذا كانت الدعوة عامة لحوار شامل لا يُقصِي أحدا و لا يلغي أي فكرة ، و لسان الحال يقول :
نارُ الرَّوِيةِ نارٌ جِدٌّ مُنْضِجَةٍ * و للبديهَةِ نارٌ ذاتُ تَلْوِيحِ
و قد يُقَدِّمُها قومٌ لِعاجِلِها * لكنَّه عاجلٌ يَمْضِي مع الرِّيحِ
تلك هي السمة الغالبة و الواضحة لهذا العهد : تَبَصُّر و روية ، و تأنٍّ ، و حكمة طافحة ، و قديما قالوا :
قد يُدركُ المتأني بعضَ حاجته * و قد يكون مع المُستعجِل الزلَلُ
دامت موريتانيا مشعل أمن و سلام ....
د. زين العابدين سيدي