في التاريخ الحضاري لغرب الصحراء، بل والصحراء الإفريقية الوسطى، لعبت المدن الصحراوية دورا محوريا في التجارة والاقتصاد والثقافة ومختلف مجالات العمران.
لقد ارتبطت هذه المدن بطرق القوافل، ومسالك التجارة، والمبادلات بين إفريقيا جنوب الصحراء وحواضر الشمال الإفريقي، في تجارة نشطة بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، فهناك تلتقي روافد التجارة القادمة من الشرق عبر طريق التوابل القادمة من الهند وطريق الحرير القادمة من الصين، وهي السلع التي ينقلها تجار المدن الإيطالية من مصر والشام نحو غرب المتوسط.
لقد نشأت حول المتوسط شبكة مبادلات بين المدن الأوربية والمدن الصحراوية، عبر موانئ مدن الشمال الإفريقي، وبالأخص مدن وهران وسبتة، التي كانت بمثابة الموانئ الأهم لتجارة مدن غرب الصحراء عبر محاور : سجلماسة، توات، تلمسان.
لكن صعود القوى الإيبيرية (البرتغال أولا وإسبانيا لاحقا) غير موازين القوة في حوض المتوسط، وكان اكتشاف البرتغاليين لطريق رأس الرجاء الصالح والوصول إلى الهند، واكتشاف الإسبان للعالم الجديد (القارة الأمريكية) عوامل ساهمت في قتل التجارة عبر المتوسط، وتراجع أهميته في مقابل ازدياد أهمية الأطلسي.
هذه التبدلات الإستراتيجية الكبرى كانت هي الظروف التي تراجعت فيها مكانة وأدوار المدن الصحراوية، بفعل موت طرق القوافل والتجارة بين الصحراء وعالم البحر الأبيض المتوسط، ولم يقتصر الأمر على هذا، بل ترافق هذا التحول الاقتصادي مع بروز أخطار أخرى، مثل سقوط آخر القلاع الأندلسية (غرناطة)، والتمدد المسيحي البرتغالي الإسباني على السواحل المتوسطية الأطلسية (احتلال سبتة ووهران وأزمور وآسفي ومزكان وآركين وجزيرة تيدره)، مما أدى إلى شيوع الذعر بين السكان، بسبب وجود تهديد عسكري مباشر، ليس فقط في الصحراء بل في عموم الفضاء المغاربي، الذي وقع بين سندان التحول الاقتصادي الجارف ومطرقة التهديد العسكري المباشر.
والمؤسف حقا أن الدولة السعدية في المغرب، التي نهضت على أكتاف علماء سوس ومتصوفتها وأشرافها، وقدمت استجابة عميقة لتحديات الاحتلال الأجنبي والتفكك السياسي في المغرب، زادت الطين بلة في الفضاء الصحراوي عندما توجه أحمد المنصور الذهبي تحت ضغط القوى المسيحية في الشمال، والعثمانيين في الجزائر، نحو تنبكتو سنة 1591، وقد لخص الشيخ سيدي محمد الخليفة الكنتي متواليات الخراب السياسي والحضاري التي تسبب فيها الغزو المغربي لسلطنة صنغاي (999 هـ - 1591 م) بألفاظ جزلة عميقة الدلالة: "فأذهبوا ريح دولة الصنغانيين، وأوهنوا دولة العلم بالبلاد السودانية، وأظهروا الحيف في البلاد... فضعفت دولة السودان وانحلت، وأدبرت عمارتهم، وتولت على بقية من رسوم الإمارة، وتحلة من آثار العمارة، حتى طرقت السودان دولة الطوارق، فدمدمت تلك الرسوم بالدمار، وعفت بالإخلاء والإجلاء بقايا تلك الآثار، فلم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من الدين إلا رسمه".
كان هذا هو السياق العام لتراجع المدن الصحراوية وفقدانها لدورها ومكانتها العلمية والتجارية، بفعل تحولات وأقدار كبرى، وهي تحولات ستتعزز أكثر مع بروز المشاريع الاستعمارية الفرنسية في الشمال والجنوب.
لقد حاول السكان ترميم الأوضاع، والقيام بمبادرات تخفف من غلوائه، ولكن التحول كان أكبر من الجميع، وسأذكر هنا نموذجين معبرين: أولهما هجرة الحاجيين من مدينة ودان للاستيطان قرب مراكز المبادلات التجارية مع الأوربيين حول نهر السينغال، في محاولة لتجاوز حالة الحصار والتهميش التي ضربت على التجارة الصحراوية، أما الاستجابة الثانية فهي التي اضطلع بها عدد من شيوخ التصوف اللامعين بالمبادرة إلى تأسيس مدن جديدة؛ تتميز بالقرب النسبي من السواحل الأطلسية، وهي مدن: أبي تيلميت مع الشيخ سيديا، وبير أم اقرين مع سيد امحمد الكنتي، وتيندوف مع المرابط ولد بلعمش، واسماره مع الشيخ ماء العينين.
والملفت في هذه المدن الجديدة هو تزامن ظهورها - نسبيا - وقيامها في نطاق صحراوي، هو الأقرب للأطلسي، لم يعرف قيام مدن من قبل.
ومع الزحف الاستعماري على البلاد أنشأ الاستعمار مدنا جديدة، وهمش عن قصد ووعي المدن التاريخية، وظلت البلاد ردحا من الزمن تدار من سان لويس (اندر)، وعندما قامت الدولة المستقلة تم اختيار موضع انواكشوط لأسباب مختلفة، يضيق المقام عن سردها، لكن عزلة مدائن التراث أو المدن القديمة ستستمر بعد رحيل الاستعمار، رغم سعي الدولة المستقلة إلى جعلها مراكز إدارية والعمل على تسجيلها في قوائم التراث العالمي.
إن توجه الدولة الموريتانية لإعادة الاعتبار لهذه المدن، وتأهيلها تنمويا وثقافيا، وتثمين موروثها الرمزي والمادي، هو علامة رشد، ومؤشر جدي على الوعي بالذاتية الحضارية، والعودة لحالة التوازن، بعد قرون من السيولة الإستراتيجية والحضارية، وإن تعزيز هذا التوجه يتطلب، كما أشار لذلك رئيس الجمهورية في خطابه بودان، وطنيا المضي قدما في استكمال مشروع الدولة الموريتانية (أم القرى الصحراوية)، وتقوية مؤسساتها، وإعادة تملكها من قبل المجتمع، والسعي لبناء عقد اجتماعي قائم على العدالة والمواطنة المتساوية، ويعني محليا خلق مشاريع تنموية لتثبيت السكان، وإطلاق حركية اقتصادية وسياحية وثقافية مستمرة حول هذه المدن، بل وحتى التفكير في مشروع عملاق لإحياء طريق القوافل الصحراوي، كما يجب أن يشمل هذا التوجه إعادة الاعتبار للمدن الأثرية في كومبي صالح وأودوغست ومدن أخرى متأخرة، مثل جول في الضفة، وكصر البركة في تكانت وغيرها.