لا يمكن فهم الفلسفة الإصلاحية لمدرسة الشيخ سيدي المختار الكنتي، وخلفيات الدور الديني والسياسي والحضاري الذي اطلعت به في ملتقى القرنين 18 و19م، دون الوقوف عند فكرة التجديد الديني، وموقعها في فكر وتجربة المدرسة، وكذا الإحاطة بالمفهوم الذي قدمه رواد المدرسة للتجديد: طبيعته، مغزاه، وحدوده، وهوية القائمين عليه، والعبرة المستخلصة من تجربة أجيال المسلمين المجددة.
ولكن في البدء يحسن بنا في هذا السياق التنبيه إلى مقدمتين أساسيتين، أولاهما تتعلق بالتنبيه إلى العمق العلمي لرواد المدرسة المختارية، وبالأخص مؤسسها الشيخ سيد المختار، والانفتاح الفكري الذي كان يتسم به، فقد دعا إلى الاجتهاد والتجديد، وانتقد بشدة الجمود والتقليد الذي كان سائدا في عصره، وكما سجل البروفيسور الحمدي أحمد، من جامعة آدرار الجزائرية، في أطروحته حول الحياة السياسية والعلمية للشيخ سيدي المختار "فقد شن المختار الكنتي الكبير حملة على فقهاء عصره، الذين اقتصروا على المختصرات الفقهية، واكتفوا بها عن الأصول والأمهات، فهو لا يعتد بهم إذ حبسوا أنفسهم في دائرة المختصرات والتعليقات، ولا يطمئن إلى ما يجترونه من سفاسف وترهات، ويعتبرهم آفة على العلم وخطرا عليه، وكان يقول ويردد: "من لم يثبت على دعيمة أصل تلاعبت به أقوال المذاهب".
و أما المقدمة الثانية فتتعلق بالتذكير بأن التجديد الديني المقصود موضوعه دين الأمة وليس دين الله، فدين الله ثابت محفوظ، ولكن دين الأمة يزيد وينقص ويصح ويمرض ولذا فهو مجال التجديد وموضوعه، ومن هنا نفهم عبارة: "يجدد لها دينها" الواردة في حديث: (يبعث الله للأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها).
وتعتبر المدرسة المختارية وظيفة المجدد، كما يفهم من الشرع وكما تقرر في التجربة التاريخية للمسلمين، تجديدَ ما اندرس من معالم الدين، والعودة بالناس إلى الفهم والممارسة الإسلامية الصحيحة كما تجسدت في العهد النبوي والراشدي، يقول الشيخ سيدي الخليفة في كتابه الطرائف والتلائد: "فلما ضعفت الأمة عن القيام بما ذكر على الرسم المذكور انتدب للقيام بكل خطة من تلك الخطط من يقوم بأعبائها من أعيان الأمة: يجدد ما قد اندرس من آثارها، ويهلل ما انكسف من أنوارها، فقام القضاة بتجديد خطة القضاء، والأمراء بتجديد الإمارة، والمفسرون بالقيام بأحكام القرآن وآدابه، والمحدثون بحفظ الحديث وضبطه، والفقهاء بتقرير علم الحلال والحرام وحفظه، والصوفية بعلم جهاد النفوس ورياضتها، وعلاجها من عللها وتهذيبها... وقام النحاة بعلوم اللسان وبيان وجوه إعجاز القرآن" الشيخ سيدي الخليفة، الطرائف والتلائد، ج 2، ص 139.
فالتجديد في فكر المدرسة المختارية عمل جماعي يقوم به العديد من المجددين، كل في مجاله وتخصصه "فإذا علمت هذا ظهرت لك بديهة أن المجدد لا بد أن يكون من أولي الأمر، ومن العلماء، ومن القراء، ومن المحدثين، ومن الصوفية أهل الزهد والورع، فإن كل فريق من هؤلاء ينتفع به في غير ما ينتفع فيه بالآخر، ومقصود الشارع صلى الله عليه وسلم إنما هو في حفظ قوانين الشريعة وضبط قواعدها" الشيخ سيدي الخليفة، أوثق عرى الاعتصام، ص 41.
والتجديد قد يكون علميا ينهض به العلماء والدعاة، وقد يكون سياسيا يتولاه الأمراء المصلحون "إذ المحققون من علماء الأمة على أن الحديث عام لأن لفظة "من" (الواردة في حديث "من يجدد لها دينها") تقع على الواحد وعلى الجمع، ولا يلزم أن يكون المراد بالحديث الفقهاء خاصة كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء، فإن انتفاع الناس بالعلماء وإن كان عاما فانتفاعهم بأولي الأمر من ولاة العدل سيما إن كانوا علماء أكثر" الطرائف ص 40.
وتعتبر الحالة التي يجمع فيها المجدد بين وظيفة التجديد الديني والتجديد السياسي أعلى درجات التجديد وأكثرها أهمية "ثم كان تجديد الإمارة في باب، وتجديد الديانة من باب فإذا أراد الله تعالى... إقامة دولة الإسلام في عصر جمع بين مجدد العلماء ومجدد الأمراء في آن وزمان فقلد الأمير العالم المشير، فكان الخلق للعالم والفري (التنفيذ) للأمير الحاكم" الشيخ سيد محمد الخليفة: الطرائف والتلائد، ج 2، ص 140.
وترفض المدرسة المختارية حصر المجددين في دائرة مذهب فقهي واحد "وليس قول من قال من العلماء بحصر المجددين في مذهب كالإمام السيوطي بسديد ولا بحجة، بل الأعدل الأقوى ما ذكرنا" الطرائف، ج 2، ص 140.
وتعلل المدرسة موقفها هذا بحجج واضحة ومقنعة "فإن اختلاف المجتهدين متحقق، فإذا ذهبنا إلى تخصيص الحديث برجل واحد يبعث على رأس كل مائة، حمله أهل كل مذهب على من يرونه صالحا من علمائهم وبقيت أهل المذاهب الأخرى خارجة عن الاحتمال لها وكان ذلك طعنا فيها، فالأولى أن يكون الحديث إشارة إلى أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة جماعة من العلماء الأكابر يجددون للناس دينهم... يعني أنهم يجددون ما وَهَى من ملته بإحياء السنن وإماتة البدع". الخليفة، أوثق عرى الاعتصام، ص 42-43.
من خلال النصوص السابقة يتضح لنا بشكل واضح مركزية فكرة التجديد والمفهوم الأصيل والمستنير الذي يمنحه رواد المدرسة للتجديد، ولكن نظرة سريعة إلى أدبيات شيوخ المدرسة المختارية، وبالأخص مؤلفات الشيخ سيدي المختار، يلحظ بوضوح هذا النَّفَسَ التجديدي، ففي مجال الفقه نجد نزوعا نحو التجديد والتأصيل كما تعكسه موسوعة "فتح الوهاب على هداية الطلاب"، والتجديد في التناول الفكري لقضايا مستجدة ومثاله "الجامع في حقوق العبد والحر والمرأة والطفل"،
والتجديد في النحو وعلوم اللغة أول شارح في العالم الإسلامي لألفية المقصور والممدود لابن مالك، إلى جانب كتابه "بغية النبيل على بيان جمل التفصيل" التي هي ألفية في النحو تزيد على 2600 بيت وشرحها الشيخ الكبير نفسه.
والتجديد في الأدب كما تعكسه الريادة في النثر العربي، ليس في الصحراء والسودان الغربي بل في العالم الإسلامي في القرون المتأخرة، وهي شهادة موضع إجماع لدى الباحثين المختصين، ويمكن الرجوع في هذا المجال لدراسة الباحث والأستاذ أحمدو حبيب الله: الأجناس النثرية الأدبية لدى المدرسة الكنتية، المضامين الراقية – الخصائص الرائقة.
وأما التجديد في علوم التربية والتصوف فقد نال شيوخ المدرسة الإمامة الكبرى في هذا الفن كما تعكس ذلك الآثار العلمية: "الجرعة الصافية والنفحة الكافية"، "الكوكب الوقاد"، و"جنة المريد"، إلخ... إلى جانب تخريج عدد كبير من شيوخ التربية في عموم الإقليم.
وكان لرواد المدرسة إسهامهم التجديدي في مجال السياسة الشرعية والحكمة السياسية يمكن الاطلاع عليه في كتابِي: "الفكر السياسي في غرب الصحراء، دراسة في تجربة وأدبيات المدرسة الكنتية"، بل إن باحثا أمريكيا هو الدكتور ألان استاك ناقش في جامعة هوبكنز بولاية ميرلاند أطروحة دكتوراه في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية تقارن أفكار أرسطو وكانط والشيخ سيدي المختار الكنتي في مجال الأخلاق والسلام والدبلوماسية.
استعراض تراث وتجربة مدرسة الشيخ سيدي المختار الكنتي يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن بواكير النهضة الفكرية الإسلامية، التي عرفتها مناطق مختلفة في المشرق الإسلامي، كانت قد عرفتها في ملتقى القرنين 08/19 صحراء الفضاء الشنقيطي، لكن ضريبة الموقع القصي في ديار الإسلام، وصدمة الهجمة الاستعمارية، وماخلفته من استلاب وتجهيل وتخلف، كلها عوامل ساهمت في إجهاض المشروع التجديدي لهؤلاء العلماء وأضرابهم، والذي كان يمكن أن يكون له إسهام لا يقل أهمية عن إسهام الأسماء الفكرية اللامعة في المشرق والمغرب.