التعليم في موريتانيا، من الازدواجية القاتلة إلى الاستراتجيات العمياء
نحن نتعلم لصنع مكانات اجتماعية أفضل لذلك لا نؤمن به كضرورة قيمية.
إن أكبر معضلة يعاني منها هذا التعليم بموريتانيا هي: معضلة غياب هدف معين يُتوخى من البرامج والأدوات التعليمية، وهو هدف لم يغب عن الإدارة الاستعمارية حيث أكد فرانسيس دي شاسه في دراسته "موريتانيا من سنة 1900 إلى 1975" – وهي دراسة يمكن الاعتماد والرجوع إليها في الكثير من المواضيع- أن الهدف الأول الذي كان يخامر أنفس الإداريين الفرنسيين بعد السيطرة الكلية على التراب الموريتاني هو كيفية "احتواء الإسلام" من خلال فرض التعليم المدرسي على حساب الحد من التعليم المحظري وكسر النفوذ المحلي للزعامات القبلية والإثنية المختلفة وتعليم الثقافة الفرنسية بدل ذلك، وهو أمر يُلاحظ فيه أنه كان هناك هدف معين وخطط محكمة من إنشاء المدرسة من قبل رجال الإدارة الفرنسية، صحيح لقد حُورب ذلك الهدف لكن النظر إلى البرامج التي كانت تعلم في المدرسة الناشئة حينها وفي تزايد العدد ولو نسبيا يعطي صورة ما جناه الاستعمار من هذا التخطيط الذي من خلاله أحكم القبضة الاجتماعية أكثر وفرض الإيديولوجية الاستعمارية بطريقة أفضل.
قدم دي شاسيه في ذلك الكتاب مختلف الظروف التي مر فيها الاكتتاب في موريتانيا، وقد أكد أن المدرسة أسست أولا في مدن الضفة بمعدل ما بين 40 إلى 45 تلميذ كلهم من الزنوج، وبعد أن طالب الشيخ سيديا وبعض الشخصيات بإنشاء مدرسة في أبي تلميت كلفت الإدارة الاستعمارية بعض ضباط الصف بالإشراف عليها لكن لم يكتتب فيها إلا أبناء المجندين (كوميات)، لكن الهدف الأول الذي جعل بعض المشايخ يطلب من السلطة الاستعمارية إنشاء مدرسة ليس التعلم في حد ذاته، وإنما معرفة اللغة الفرنسية لتمكنهم من ممارسة التجارة بشكل أكثر حرية.
كانت السوائع التربوية في مدرسة أبي تلميت بعد تأسيسها 1913 تقسم على النحو التالي: 12 ساعة من العربية (تفسير القرآن، الفقه، أصول الدين) 13 ساعة من تعلم اللغة الفرنسية، وفيها 9 تلاميذ يحضرون لشهادة ختم الدروس الابتدائية، وقد اضطروا فيما بعد لتحويلها إلى المذرذرة وإعطاء 19 ساعة من الفرنسية مقابل 9 ساعات ونصف من اللغة العربية وأدخلوا ديوان الست في البرامج المُدرّسة والسيرة النبوية والفقه وأصول الدين وعلم العروض، قبل أن تغلق بسبب الحرب العالمية الأولى.
ازدهرت مدرسة أبي تلميت وتمت إعادتها إليها سنة 1929 وكثرت على الإدارة طلبات التسجيل من قبل الأهالي، وأصبحت تُحضر فيها شهادة ختم الدروس الإعدادية، الأمر الذي جعل الإدارة الاستعمارية تفتح مدارس في بعض المناطق والولايات الأخرى، لكن نسبة التمدرس بقيت ضئيلة قياسا على نسبته وانتشاره في البلدان الأخرى، حيث أن المدرسة في عموم موريتانيا كانت تضم 439 تلميذ مقسمين على سبع مدارس، لتزداد النسبة في سنة 1941 ب 900 تلميذ مقسمة على 14 مدرسة
وعموما فقد حققت المدرسة في موريتانيا الهدف الأول التي كان متوخيا منذ تأسيسها وإن كان بشكل خافت وبطيء، رغم أن مجمل المعطيات تؤكد على تغير الموقف الاجتماعي منها بعد 1950، فأصبح للمستعمر شركاء محلين ومساعدين إداريين وطبق بنجاح سياسة المشاركة التي انتهج بعد تطويعه للبنيات الاجتماعية المحلية.
وتوصف العقود بين أعوام 1940- 1960 بأنها فترة ازدهار التعليم الفرنسي في مُستعمرة موريتانيا، حيث تشير بعض التقارير ارتفاع نسبة التمدرس من 1.6% سنة 1944م إلى نسبة 7.3% سنة 1960 منتقلة أعداد التلاميذ الابتدائي من 1500 سنة 1946 إلى 5500 سنة 1957، وإلى 11200 سنة 1960، بالإضافة إلى زيادة المؤسسات العمومية الإعدادية والثانوية، وافتتاح مدرسة لتعليم البنات في أبي تلميت سنة 1950.
ورغم انتصار الإيديولوجية الاستعمارية بهذا الشكل الملفت فإنه لا بد من الإشارة أن التعليم المدرسي كان إجباريا بقرار اتخذ بعد تنظيم أول انتخابات في أقاليم فرنسا الاستعمارية سنة 1949م لكن الهدف المعلن منه سابقا تحقق، وفُرضت اللغة الفرنسية من خلاله، بل حتى أن الدولة بعد أن استقلت وجدت صعوبة في تقليص سوائعها وكان يواجه ذات القرار مقاومة محلية بفعل مزايدات الصراع العرقي.
إن أول صعوبة واجهتها الدولة بعد الاستقلال وأكبرها تكمن في التعليم، والغاية منه أصلا، وأي هدف مُتوخى منه؟، فقد ربطت الإدارة الاستعمارية بين تعلم اللغة الفرنسية والتوظيف بفعل استخدامها لطبقة الخريجين القلائل الذين درسوا في المدرسة، وكانت الهوية العربية في بعدها الذاتي والمحل على الاختلاف عن الدولة الاستعمارية وثقافتها تواجه بصمت التعليم الفرنسي، في مقابل الهوية الزنجية التي وجدت نفسها في إطار ذات الاختلاف الهوياتي متشبثة بالتعليم الفرنسي خوفا من سيطر العنصر الناطق بالعربية بموريتانيا، الأمر الذي جعل قرارات الدولة تتأثر بهذا الصراع حول إصلاح التعليم، وبقيّ خيار أو إشكال هل نحن دولة عربية مستقلة يجب أن تبني هويتها بتعليمها الخاص مطروحا؟ أم نحن دولة فرنكفونية علينا أن نبقى محتفظين بلغة المستعمر كملجئ وحيد لحماية وحدتنا عن التنوع والاختلاف الاثني والعرقي؟ مطروحا من جهة أخرى.
وذلك أمر تجلى بوضوح في تقرير اللجنة الثقافية الموريتانية حول هيكلة إصلاح التعليم في أواخر ستينيات القرن المنصرم والذي أعتمده الحزب الحاكم حينها سنة 1973،وكانت النتائج التي توصلت إليها باعتماد خبراء فرنسيين هو اعتماد تعليم مزدوج، وقررت في ذات السياق تعليم أبجديات اللغة العربية في الابتدائية وزيادة سنواتها بسبع سنوات، واقتصر التغير الذي طال التعليم الثانوي وقتها بنزع بعض الكتب المقررة وكانت روايات فرنسية.
وعلى العموم فإن نسبة التعليم المدرسي من استقلال الدولة إلى منتصف سبعينيات القرن المنصرم ، وصلت سنة 1975 رسميا 16.9%، إن الإشكال الأكبر الذي يواجه التعليم في موريتانيا المدرسي رغم ربطه بالتوظيف وبتحسن المستوى الاقتصادي، هو النموذج التقليدي (المحظرة) الذي لا يزال سائدا، وكانت مخرجاته تتفوق إذا ما أرادت الحصول على شهادة تخول لهم التوظيف وسط تهميش مطلق له ورثته الدولة عن الإدارة الاستعمارية، وواصلت نهجه، وبقيت الازدواجية التربوية في التعليم بموريتانيا ازدواجيتين، ازدواجية مدرسية في التعليم الرسمي بين الفرنسية والعربية، وازدواجية تربوية بين مدرسة نظامية رسمية وأخرى اجتماعية هي الأكثر ثقة عند المجتمع والأكثر ارتباطا به.
لكن الظرف السياسي الذي أعْقب انقلاب 1978م فرض على اللجنة العسكرية الحاكمة وقتها اعتماد إستراتجية جديدة للتعليم هي الأخطر فتكا على مبنى الوحدة الوطنية، على الرغم من الفشل الذي اعترى تطبيق السابق بفعل النقض المادي والمعنوي وبفعل دخول الدولة في أزمات سياسية خارجية وأخرى عرقية أو نقابية داخلية.
إن مبدأ الفصل بين اللغة العربية وتعليمها للناطقين بها، واللغة الفرنسية وتعليم الزنوج الموريتانيين الذي رفضوا من أجل الحفاظ على ملامح الاختلاف بينهم والبيظان العربية، الذي أقرته اللجنة العسكرية للخلاص الوطني الحاكمة سنة 1979م جعل الدولة تسير شعبين مختلفين الثقافات والأعراق والتوجهات، وتبقى في دوامة الازدواجية بأبشع صورها، وليس ذلك إلا نتيجة صراع آخر مزدوج ذا بعد نفسي بين من يفضل التعليم الإسلامي حسب ما أطلق المستعمر على ذلك، وبين من يفضل التعليم العصري الذي عن طريقه يحصل التوظيف في الدولة، بين هوية عتيقة يجب أن تُعصرن وأخرى غريبة يجب أن توافق وتدمج.
هذا الشرخ تُغلب عليه في إصلاح 1999 والذي لا يزال مستمرا إلى حد الساعة، فتم اعتماد الازدواجية من جديد مع تقليص إهمال التربية الإسلامية، والتي كان تهميشها في السابق يتطلب الجبر والعقاب، والانفتاح على اللغات الأجنبية والأخرى بل وتعزيز الفرنسية بتدريس المواد العلمية بها.
إن الناظر إلى المراحل التي مرت بها نُظم التعليم في موريتانيا واستراتجياته يدرك أنه لم يُتواضع من خلال اعتماد أهداف معينة ورسم استراتجيات التعليم عن المدى القريب والبعيد فيها، إلا مع الإدارة الاستعمارية وباكورة ميلاد المدرسة النظامية التي ارتبطت بها، ثم التلعثم الذي كان واضحا في قرارات الإصلاح لا تحمل من الإصلاح إلا ذاتها، بفعل سيطرة النموذج الأول وانتصاراته التي حقق، وهو شيء يرجع إلى إرادة الدولة أولا بعدم فرض أجندتها من خلال التعليم بثنائية الإكراه والتميز كما حصل مع الاستعمار قديما، فمخرجات التعليم حاليا ومنذ عقود بموريتانيا لا تلقى أي اهتمام بعد تخرجها من الدولة ولا أي إنصاف، وهو أمر قد يعدم أفق التعليم لا أن يهمشه كما هُمش خريجوه.
ولا يمكن أن ننسى إهمال البعد الاجتماعي من كل تلك الاستراتجيات وطغيان السياسي عليها، فلو كانت في لجان الإصلاح خبراء اجتماعيون يعرفون كيف يخططون على المدى القريب والبعيد ويوافقون بين برامج التعليم وأهدافه وبين العقلية الاجتماعية، لكان أسهل، ولو اعتمدت في كل مؤسسة خبير اجتماعي لكان تعاطي الطلبة مع الأساتذة أنجع، ولكان التسيير الإداري في مؤسسات التعليم أفضل.
إن احتواء النموذج التعليمي التقليدي (المحظرة) من قبل الإدارة الاستعمارية تحت عنوان "احتواء الإسلام" أمرٌ تحقق أكثر مع النخبة التي قادت الاستقلال وسيرت الدولة بعدها، لتنتقل الازدواجية التي طبعت ملامح التعليم ومراحل تطويره وتغييره، إلى عمق العلاقات الاجتماعية، فبدل من أن يساهم في الوحدة جذر التفرقة وبدل يغني التنوع بوعي رسخ الوعي بالإختلاف.
العقلية التي جعلت المجتمع يقتنع بالمدرسة ويتوجه إليها هي عقلية نفعية لا تزال قائمة ولا يُنظر إلى المدرسة إلا من خلالها فالشهادة الكبيرة إن تساوي الوظيفة الكبيرة فلا معنى لها، أي أن النظرة المادية للتعليم طغت على كل شيء.