الراقص البارع لا يجعلُ المرأة تشعر أنها تُقاد على الإطلاق، في حين أنه هو من يتحكم في كل الحركات والإيقاع. ( روبرت غرين)
عندما تتحول المرأة كعبارة في فلسفة "غرين" الذي اشتهر بكتابته عن السلطة واستراتجيات النفوذ في العالم الغربي اليوم، إلى معنى يدار كما تُدار الشعوب وإلى الحكمة في فرض النفوذ والسلطة بشيء أكثر جاذبية وقابلية للانقياد طوعا رغم الخيوط الخفية المُتحكمة ساعتها يكون معنى الرقص أكثر عمقا ونجاعة من الضوضاء غير المفهومة وغير المنتظمة، فالراقص المتحكم له هدف وإستراتجية يحاول أن يخضع الإيقاع لهما كما يقود مرقوصته، في حين أن الراقصة هنا ترقص لذات الرقص بفعل نشوة الإيقاع وتفاعل الراقص الذي يسيطر عليهما معا.
وبتعدد الرقصات واختلافها شكلا ومضمونا وهدفا وبتنوع الراقصين واختلاف الشعوب يكون الفحص أو التمكين لحضور القوة والنفوذ على اختلاف السياقات أمرٌ محفزجدا، خصوصا إذا ما نظرنا من الزاوية التي يرى بها "غرين" الرقص وإبداع الراقص المتحكم، ناهيك عن أن صناعة الرمز في الانثروبولوجيا الاجتماعية والسياسية قد يجعل الباحث أو الملاحظة مضطرا إلى كشف ألغاز الرقصات الروتينية والفلكور الشعبي المتعارف عليه، في سياق ربطه بالأنظمة السياسية المتحكمة أو المتصارعة وتفكيك بنائها الرمزي.
"غرين" أيضا الذي كان يستشار من أعلى هرم السلطة في إسرائيل ومعظم دوائر النفوذ العالمية كلها لما حققت كتاباته عن قواعد السطوة وأصل القوة، طرح إشكال التغيرات التي طرأت على العالم بفعل حضور وسائل التواصل الاجتماعي وحضورها كمتغير في تغير العقليات والتعاطي مع الشأن العام سياسيا وثقافيا، وهو أمرٌ جعل البحث في أصل السلطة عنده يعتيره العديد من الصعوبات فقط أصبحنا كما يقول "نفقد الثقة في السلطة لقد أصبحنا أكثر ديمقراطية وارتباطا من أي وقت مضى،تعليق واحد سيء أو مقال سلبي واحد أو إشاعة واحدة مروعة يمكن أن تدمر سمعة ومصداقية شركة أو فرد من الناس".
وإذا حاولنا الخروج قليلا دون التخلي عن السياق العام والانتقال من مجال الرقص على إيقاع الموسيقى إلى الرقص على إيقاع السياسة، تحت ضغط ما تسير من مناهج تسهم في الفهم دلالات مختلف الإيقاعات في إطار نجاعة محاكمة السلطة أو موضوعية تفكيك بنائها أو بالتفصيل أكثر على خطوات "جورج بلاندييه" الذي عرّف الانثربولوجيا السياسية على أنها " أداة اكتشاف ودراسة شتى المؤسسات والممارسات التي تحقق حكم الناس فضلا عن أنها أداة اكتشاف لنظم التفكير والرموز التي تستند عليها".
هل كان "جومو كينياتا" أول رئيس لدولة كينيا محقا في دعواه إلى إحياء القبيلة والرجوع إلى ماضيها من أجل أن يتخلص من السيطرة الاستعمارية؟، تبريرا لذلك أو شرحا يعتبر لبروفسير عبد الودود ولد الشيخ نقلا عن بعض أنثروبولوجي القرن الافريقي لإفريقيا أن الحروب القبلية وما تعكس من تضامنات بدائية أهون بكثير من الحروب التي جندت لها القوى الاستعمارية الأفارقة مثل الحربين العالميتين، لذلك كان على الرئيس جومو في رقصته السياسية إحياء ما قتله الاستعمار من أجل تأسيس الدولة الوطنية المغايرة لما يريده المستعمرون ذلك.
نفس الأمر انطبق علينا وإن بشكل مختلف حينما حاول الرئيس المؤسس المختار ولد داده اشتثاث القبيلة وتقويض قوتها في سبيل بناء الدولة ومؤسساتها، فإن كانت الرقصة السياسية التي أداها "كينياتا" تهدف في رمزية استراتجياتها إلى تقوية حضور المجتمع مقابل المستعمر الابريطاني الذي كسر قواعد القبيلة قبل الاستقلال واجتثها في كينيا، فإن الرقصة السياسية هنا كان عليها أن تكون مختلفة لأن فرنسا حاولت فيما أورد دي شاسيه أن تبني نمطا إداريا خاصا في موريتانيا نظمت من خلاله المجموعات القبلية تنظيما إداريا خاصا، الأمر الذي أدى إلى استمرار قواتها وحضورها.
تفكيك البناء السياسي أو الأساس الذي تقوم عليه الدولة بما تحمل من تناقضات وتعارضات على المستوى السياسي وفي إطار صناعة النفوذ واستراتجيات التسلط وفق ضوابط وقواعد محددة يجعل الرَقَصات تختلف باختلاف الاستراتجيات والاتجاهات، لكن عمق التباين يمكن ملاحظته في محيط اجتماعي معين (واحد) ذا سلطة مركزية واحدة (دولة) بتعدد توجهات النخب وموقفهم من السلطة المركزية، ولعل عدم التمعن في اللعبة السياسية وعدم الاكتراث لقواعد التأثير والنفوذ يجعل الفاعلين أو الراقصين في ميدان السياسية يعبرون عن تناقضات اجتماعية أكثر من بحثهم وفق ضوابط المنطق السلطوي عن مساحات التأثير والقيادة الشاغرة.
فالإشاعات التي أحجمت قوة المؤسسة وأفقدت الثقة في سلطتها تصدر من راقصين تتحكم فيها نزوات الإيقاع أكثر من استراتجيات الهدف كحال الراقصة التي ترقص للإيقاع، في حين أن المتحكم في تلك الرقصات لا يشبه حاله الحال الراقص الذي يسيطر على الراقصة وهو يشاركها نفس الحدث، نفس الأمر يحيد عنه أصحاب المؤسسات الحزبية حينما يعلنون لجماهيرهم أهداف ومبادئ يعملون هم في الخفاء خلافا لها وبمشاركة فاعلون/ راقصون على مستوى أخر وفق ضوابط أخرى.
إن تناغم قواعد السطوة مع حركات الإيقاع ومسارات الجماهير أمرٌ يتطلب أن يكون العازف والراقصين على منوال واحد ووفق مسار تتحد فيه جميع النغمات ومع حركات الراقصين، وهو أمرٌ يتطلب القياس أكثر على مسرح السياسة والسطوة والنفوذ.
وإذا افترضنا مبدئيا أن الراقص البارع الذي يتحكم في الإيقاع ومرقوصته دون أن تشعر يجب أن يتمثل في قوة الدولة بما تحمل من شرعية احتكار العنف وبما تنطوي عليه من مؤسسات مختلفة الفاعلية في الحقل الاجتماعي والسياسي والثقافي العام،وبما تملك من مدى القوة وتسير العنف والعدل بالإنصاف، فإن الرقصات الشاذة الخارجة عن السياق العام تجعل الفاعلين يحتسبون ولو بعد حين أن ثمة إيقاع آخر قريب قد يكون أفضل لرسم السياسات وتحديد الهدف في حين أنه مجرد محاكاة تنوي القرب أو لفت الانتباه.
كحال صاحب السلطة التقليدية وقد تراجعت هيمنته الواقعية على المجموعة وبقى يدير أخرى بدلا عنها رمزية أكثر من واقعية ولا يزال يوهم من في يده القوة أنه صاحب الأمر الأول في تلك المجموعة، وكحال كذلك الراقصين على إيقاع في أقصى الشمال يستحدثون به خطبا معينة يريدون بها لفت الانتباه أو الوصول للعمق، وهكذا...