كانت موريتانيا حتى ثمانينات القرن الماضي تعتمد على عقد اجتماعي متماسك تلعب فيه الأسرة الممدة دوراً كبيراً، الأمر الذي رسّخ سلطة المجتمع على الأفراد، وجعل المنظومة الأمنية الداخلية تحكم قبضتها بسهولة، بفضل مجانية وانسيابية المعلومات التي تتوفر لديها عن الأفراد الذين يمارسون ما يُعرف بالجرائم البدائية ( النشل وغيره...).
وإذا حاولنا رصد جرائم التّلصص والحِرابة في البلد خلال خمسٍ وعشرين سنةً الماضية نجد أنها تطورت بصورة مذهلة، ولم يواكب هذا التطور تهيئة للكادر الأمني الذي مازال يعمل بطريقة بدائية.كانت عصابات "دَخَّلْ شِ وللَّ تِمْشِي"، من أولى العصابات التي كسرت الثقة بين المارة وأصحاب السيارات الخاصة، auto- stop ومهّدت بالتالي لظاهرة الإنطواء على النفس، ما يعني أن الفرد العادي في المدن الكبرى بدأ يتخلى عن مسؤولياته الأمنية تجاه مجتمعه.
لقد أدت موجات جفاف السبعينات من القرن الماضي إلى نزوح كبير إلى المدن الأمر الذي انعكس على الخدمات التي تقدمها المدينة بشكل سلبي، بما في ذلك الجانب الأمني ، ولا شك أن التغيرات الكبرى التي شهدها العالم مثل (ظاهرة العولمة وغيرها) ساهمت هي الأخرى في تمزيق روابط المجتمع التي كانت إحدى أهم دعائمه الأمنية، ولا يمكننا أن نهمل في هذا الصدد هشاشة الرقابة الحدودية التي فتحت المجال أمام هجرة مئات الآلاف من الأفارقة الذين اتخذوا من موريتانيا نقطة استقرار مؤقتة للعبور إلى أوروبا، ناهيك عن عديد الخلايا النائمة التي تُحركها عاطفة دينية لاتعترف بالحدود الجغرافية للدول.
ساهمت كل هذه العوامل وغيرها في تهيئة بيئة ملائمة للجريمة المنظمة، وقد أدى دخول تجارة المخدرات على الخط إلى وجود تشكيل عصابي يضم شبكات دولية تشتغل ضمن مقاربتين في غاية الخطورة أولهما استدراج أكبر عدد ممكن من مختلف أفراد القطاعات الأمنية من خلال الإغراء بالمبالغ المالية الكبيرة واستغلال خبرتهم في تطوير عمل تلك العصابات، أما المقاربة الثانية فتسعى لجعل جميع تلاميذ المدارس متعاطين للمخدرات، والهدف هو توفير حاضنة اجتماعية تُمكّن تجار المخدرات من تمريرها بسهولة عبر موريتانيا التي تعتبر محطةً مهمة في نقل تلك السموم إلى أكبر أسواقها فيالعالم.
إن المعلومات التي تقدمها السلطات المختصة عن الجريمة في نواكشوط والتي تتركز في ما يُسمى بمربع "شيكاكو" Carré de Chicago ( دار النعيم، عرفات، السبخة، الميناء) توضح أننا أصبحنا ضمن البلدان التي تعاني من الجريمة المزمنة خصوصاً وأن معظم تلك الجرائم نفذت بالسلاح الأبيض أوبالأسلحة النارية وتحت تأثير الحبوب المهلوسة أو الجُرعات الزائدة من أدوية الأعصاب، الأمر الذي يثبت أن المجرم كان ينوي قتل الضحية لأتفه الأسباب مع سبق الإصرار والترصد.
الخطر الحقيقي يتمثل في كون ظاهرة السطو تحت التخدير بدأت تنتقل إلى الداخل في تحول يوحي بانفلات خطير على المستوى الأمني، خصوصاً وأن أفراد الأمن تعيقهم الإمكانيات المادية والبشرية وحتى اللوجستية عن متابعة تلك العصابات التي بدأت تتغذى على مواطن الثقة القديمة في المجتمع مثل التمظهر بالتّدين والسكن في المساجد تحت عنوان طلبة العلم، وهو ما يسمح لهم بالحركة ضمن ارتكاز الأمان "Safety fulcrum" وتُعد حالتا الطيطان واركيز اللتان اغتصبت فيهما بنات في عمر الزهور، وغيرهما من الجرائم التي تم التستر عليها تحت عنوان الشرف، أكبر دليل على أن شبح الانفلات الأمني آخذ في الانتشار وبصورة تُهدد كيان موريتاني في الصميم.
تتحدث بعض التقارير الصحفية الخاصة عن دخول الكثير من العناصر الخطيرة إلى المدن الكبرى في موريتانيا في زي مدني سبق لها وأن تلقت تدريبات عسكريةً مكثفة في بعض الدول الإفريقية، وفي هذا الصدد يمكننا تفسير انتشار تهريب السلاح إلى البلد، استعداداً لعمليات عسكرية قد تكون تلك المظاهرات التي شهدتها نواكشوط مع إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة مجرد بالونات اختبار تمهيداً لفتح المجال أمام تنفيذ خطة تم التدريب مرات عديدة على سيناريوهات مماثلة لها، بهدف إرباك المشهد، وهو أمر إن وقع، ستكون نتائجه كارثية في جميع الاحتمالات. عموماً تعيش موريتانيا منذ فترة ظروفاً غاية في الدقة تتطلب من أصحاب القرار أخذ الكثير من الإجراءات والتدابير الأمنية الحازمة، وأخشى أن تكون في الوقت الضائع.
د. أمم ولد عبد الله