من تاريخ الكادحين الحلقة (18)

عودة الى اكجوجت ومغامرة اخرى

وضعية كارثية
رغم أن السالك ولد الحاج المختار كان يعيش في السرية، إلا أن مغادرته عرّضتنا لمشاكل حقيقية من أهمها معضل التأطير داخل هياكلنا. كان علي أن أضمن  القيام بهذه المهمة. كان علي أيضا أن أضمن 
تحرير نشريتنا المحلية: الشبيبة العاملة. هذا النوع من النشريات نصحت به القيادة. إنه يتمثل في سلسلة من المقالات مكتوبة باليد على ورق على شكل دورية كثيرا ما تكون أسبوعيةشهرية. ويوكل التصميم النهائي إلى الشاب البخاري ولد المؤمل اعتبارا لحسن خطه :  توجد النشريات في كل المدن الكبيرة تقريبا. وقد أنشأ بعض المناضلين نشريات مماثلة في العديد من المناطق الريفية. تم، بعد فترة وجيزة، توقيف وتحويل البخاري إلى سجن بيلا. ما خلق لنا مشكلة كبيرة. والحقيقة أن البخاري كان آخر النشطاء القادرين على إسماع كلمتنا في المهرجانات التي تعقدها السلطات لجلد الحركة. كانت تلك المهرجانات عبارة عن كمائن تنصبها السلطات لتجر أفضل مناضلينا للكلام بغية توقيفهم وسجنهم في بيلا طبقا لمخطط وزير الداخلية. أما تكتيكنا نحن فيكمن في أن لا نترك لهم الميدان شاغرا في حال من الأحوال للترويج لدعاياتهم ضدنا. وبالتالي فالمواجهة كانت حتمية. البلاد كلها كانت تعيش جو حرب أهلية حقيقية.
كان سجن البخاري بمثابة نزع تام لآخر أسلحتنا. ربما من أجل اختبار وسائلنا، قامت سلطات أكجوجت، في اليوم الموالي لتوقيف البخاري، ببرمجة مهرجان جديد. كان علينا أن نمعن في البحث العاجل عن حل بديل. استدعيتُ الشاب المرحوم أحمد ولد سيدي: إبن عم البخاري. شرحت له، باختصار، الوضعية الكارثية التي نعيش. و قد وُضعت شجاعة أحمد ولد سيدي، كما هو حال ابن عمه الطالب اخيار، على المحك. الطالب أخيار، البالغ 12 سنة أو لا يكاد، وأحمد ولد سيدى طيب الله ثراه ،البالغ حوالي 15 سنة، اعتـُـقلا، ذات مرة،     حيث تعرضافى نواكشوط لتعذيب غير إنساني. فألمغفور له ولد سيدي اقتـُـلعت أظافره بكلاّبة وكان الطالب أخيار أصغر معتقل. لذلك فإن عددا من بيانات منظمة العفو الدولية، المولودة للتو في لندن، تحدثت عن حالتهما خلال زيارة لها إلى نواكشوط، منددة بعمليات التعذيب في السجون الموريتانية. أما المرحوم أحمد ولد سيدي فتوفي بعد سنوات  قليلة بسبب سرطان لا يُستبعد أن تكون لعمليات التعذيب التي تعرض لها علاقة به. كان تلميذا في السنة الأولى من مدرسة تكوين المعلمين في نواكشوط.

 

الحل الصعب 
فصّلتُ للرفيق أحمد ولد سيدي جعل الله جنة الخلد مأواه ، خطة عملي الهادفة إلى إبقاء المبادرة بشأن الأحداث بين أدينا. شرحت له أولا بأننا لسنا بحاجة له في العمل السري. وأن عليه أن يستعد للمبيت في سجن بيلا خلال الـ 24 ساعة الموالية. المهرجان الذي يراد منه أن يتكلم خلاله، دعا إليه وجيه شهير يأتي دوره في تسيير الشؤون السياسية في المرتبة الثانية بعد دور الحاكم، وحتى أنه يسبق  دور أمين حزب الشعب الموريتاني (PPM). يتعلق الأمر بمحمد ولد
 محمد فال، المعروف بـ"آزرام" أطال الله عمره بسبب لونه الأسود الداكن رغم أنه ينتمي لأسرة نبيلة من قبيلة كنته. كان ازرام، فضلا عن كونه قائدا للملشيات، رئيسا  لقسم الحزب الحاكم في حي أدباي: أهم الأحياء العريقة في المدينة. شرحت لولد سيدي رحمه الله بأن عليه أن يفعل المستحيل ليتجاوز حياءه ويفاجئ الكل  بـ"خطاب عن المنهج" مثل الفيلسوف الفرنسى ديكارت. قلت له إن "عليه أن يهز ديكارت في قبره". نجاح هذه المرحلة سيمكننا بسهولة من تنفيذ المرحلة الموالية. قلت له موضحا: "إذا تمكنت من جذب تعاطف الجمهور الحاضر ومن تأليبهم ضد السلطات، سيكون من الصعب عليها توقيفك على الفور. يجب استغلال وقت المداخلات الموالية للاختفاء". كنت أتوقع أنه بعد مثل هذا النجاح، سيكون احتمال إعطاء السلطات أمرا بتوقيفه خلال المهرجان ضعيفا، خاصة في حالة أننا تمكنا من جعل المهرجان في صالحنا. بما أنني غير معروف في العلن، فقد حضرت مهرجان آزرام فور انعقاده. كان الأمر على ما يرام. جرت الأمور على أحسن وجه. نجحت المراحل الأولى وعلينا البدء في المرحلة الأسمى. بعد استحسان الخطاب الرسمي، تحول المهرجان، مع مداخلة أحمد ولد سيدي، إلى تجمع للمعارضة.

 
الوجيه الحكيم               
المرحلة القادمة تتمثل في قيام أحمد، المطلوب بجنون، بزيارة ازرام في منزله!. شرحت لأحمد أن ازرام لا يعرف عنا أي
شيء. فأنا على قناعة أنه يؤمن كثيرا بالخطاب الرسمي المعادي لنا. قلت لأحمد: "زيارتك لا تهدف إلى إقناعه، وإنما إلى كسر حماسه ولو مؤقتا، أولا من خلال وقع المفاجأة الذي ستحدثه الزيارة، وثانيا من خلال إتحافه برأي حولنا مختلف جذريا عن الرأي الذي يروج له وكلاء النظام". أعطيته تفاصيل عن مفاصل الخطاب. الحركة الوطنية الديمقراطية كانت تدعو حينها إلى سياسة حوار على شكل برنامج من خمس نقاط. كان الشاب، مسبقا، مشبعا بالفكرة. تتمحور تلك النقاط حول الحريات السياسية، والإصلاحات الاقتصادية، وإصلاح التعليم، ومساندة الشعب الصحراوي في حرب التحرير من قبضة الاستعمار الاسباني. كان عليه أيضا أن يخبر ازرام بأن حركتنا تحوز دعما كبيرا على المستويين الوطني والدولي، وأن من بين مناصريها علماء أجلاء وشخصيات دينية بارزة مثل المرحوم محمد سالم ولد عدود الذي رفض باستمرار أن يتخذ موقفا ضدنا. كان على أحمد ولد سيدى يكون مرتب الشعر ،حسن الهندام وأخيرا شرحت له أننا سنكون أمام احتمالين. الأول، الأقل ورودا بالنسبة لي، أن يبلغ عنه ازرام بالفور ويقوم بإجراءات اعتقاله. في هذه الحالة سيرتكب خطأ شنيعا بتوقيفه لشخص  ينحدر بالآحري من هذه المنطقة زاره في منزله وهو لا يطلب غير النقاش معه في شؤون بلادهما. قلت له إن احتمال أن يتصرف ازرام بهذا الشكل ضعيف بسبب انتمائه إلى قبيلة عريقة ككنته المعروفين بتعلقهم بقيم الفضل والشهامة. الاحتمال الثانى مفصل فى مراحله.
علمنا أن المدينة، بدءا بمنزل أهل أحمد حيث لا يوجد هو إلا نادرا، أخضعت لتفتيش دقيق بحثا عنه.
بما أنني أزور بانتظام أسرة أهل هيين، في منزل زينب، غير بعيد من مسكن ازرام، فإنني أعرف شيئا ما برامجه الاعتيادية. فعند الساعة الثامنة مساء، بعد صلاة المغرب، يتناول بهدوء، مع أصدقائه شايا في صالون بمنزله. كثيرا ما أرى ماء السخانة يغلي خارج المنزل على فرن  مليء بالجمر .
أوكلتُ إلى شخص مهمة مراقبة المشهد وإحاط  علما بأدنى تطور. أظن أنني أوكلت الأمر إلى الطالب أخيار أو قريبه محمد ولد الخرشي. مرة أخرى، جرت الأمور على أحسن وجه. عندما وصل أحمد إلى باب الصالون، كان ازرام ينظر إلى الأسفل، مستغرقا في التفكير، وقد شد رأسه بيديه. فاختفاء أحمد أثار قلقه الشديد. قال الضيف الغريب: "السلام عليكم". رفع ازرام رأسه فجأة، رادا: "وعليكم السلام". ثم سأل أحمد من هو وما الهدف من زيارته. كانت كل التفاصيل متوقعة ومبرمجة. كشف أحمد عن هويته، مضيفا: "أنا فلان الذى تكلم في المهرجان وقيل لي انكم تبحثون عني. أريد أن أعرف لماذا". كان ينتظر ردا من ازرام دون أن يحول النظر عنه. لقد أذهلته المفاجأة، فسكت برهة قبل أن يقول بصعوبة تحت وقع التأثر: "يا بني، مرحبا بك في منزلي. أخبرك بأن السلطات، خاصة الحاكم، كلفني بأن لا أنام هذا المساء قبل إخراجك من عشك وتوقيفك. أقول لك صراحة إن شجاعتك وحدها في الارتماء في الخطر غيرت تماما رأيي في رفاقك". ثم أردف يقول: "يا بنيْ، خذ مكانك لتتناول معنا الشاي". ثم انطلق النقاش. لم يتوقف ازرام عن طرح الأسئلة حول ظاهرة الكادحين. وكان أحمد يجيب بتؤدة. خلص أحمد إلى المطالبة بحوار بين أبناء البلد لحل مجمل مشاكله سويا في جو من السلم المدني والوئام الوطني، طبقا للعريضة التي وضعتها وتدافع عنها الحركة. أعطى ازرام موافقته على هذه الخلاصة. وانتهى النقاش في وقت متأخر من الليل. قبل أن يتفرقا طلب ازرام من أحمد أن لا يذهب مباشرة إلى أهله، وأن يعطيه الوقت ليرى الحاكم  الذي كان قد كلفه بأن لا ينام قبل إخراجه من عشه وتوقيفه. "عليّ أن أوضح له المعطى الجديد، وأن أنصحه بأن يوقف كل المحاولات الهادفة إلى توقيفك"، يقول ازرام.
في اليوم الموالي، انتشرت بسرعة البرق انعكاسات القنبلة السياسية وأسهب الناس في نقاشها والتعليق عليها لصالحنا. وهكذا تعرضت حملة وزارة الداخلية  لنكستها الأولى في أكجوجت. وقد منحتنا جريدة "صيحة المظلوم" جائزة "أفضل استغلال لتناقضات النظام"، وهي شق هام من استراتيجيتنا السياسية.

أحد, 07/03/2021 - 23:41