عندما وضع ماكس ويبر عالم الاجتماع الألماني ورائد المدرسة لكلاسيكية نظريته البيروقراطية الإدارية والتي قسم فيها السلطة الإدارية إلى ثلاث أنواع بطولية تقليدية تشريعية لم يدر بخلده أن هناك نوع رابع يسمى سلطة الوساطة القبلية وهي سلطة عالم ثالثية تختصر الزمن وتتجاوز القوانين ولا تعير اعتبار لمبادئ التراتبية الإدارية ولا للأقدمية الوظيفية، سلطة عمادها النفوذ والعلاقات والمصالح، وتظهر ملامحها جلية في التعيينات الإدارية مشكلة توازنات مبتدعة فرضتها القوة التقليدية للمجتمع.
لقد كان المسعى من فتح باب التعاقد أو التعاون مع غير الموظفين هو سد النقص الذي شكله الفراغ الناتج عن غلق باب الاكتتاب في الوظيفة العمومية باستثناء التعليم والصحة استجابة لشروط صندوق النقد الدولي التي وضعها للدول للنامية حتى تحصل على قروضه المجحفة وكإرشاد لها للتخفيف من النفقات العمومية في إطار إصلاح المالية العامة وتقليل نسبة العجز في الموازنة الحكومية، مما شكل نقصا في الكوادر الإدارية المؤهلة لشغل مناصب حساسة، فلجأت الدولة للتعاقد من خارج الإطار الوظيفي حتى تضمن استمرار المرفق العمومي.
وبالرغم أن ويبر طالب في نظريته الإدارية بالتخصص الوظيفي فقد شكلت تلك الخطوة ثغرة لكل الطامحين للقفز على المشروعية الأصلية ممثلة في أحقية الموظفين العموميين في المناصب الشاغرة ليصبح الأمر شبيها بكيان موازي للوظيفة العمومية فبدل أن يلجأ لغير الموظفين في التعيينات في حالة شغور المنصب وخلو الإدارة من موظف عمومي، أصبح الأمر على غير عادته.
بل إن معايير التعيينات نفسها تبدو غامضة إلى حد بعيد فرغم مزاحمة المتعاونين والعقدويينللموظف في أحقية شغره للمرفق العمومي تغيب المعايير الواضحة في الترقيات بين الموظفين أنفسهم حتى أن مصطلح المظلي الطائر أصبح مستخدما كتعبير عن قفز بعضهم ليحل مكان بعض، فكم من قصص إقصاء وتهميش حوتها أروقة المكاتب سوى أن أصحابها لا يملكون يدا قوية تنتصر لحظهم العاثر فرجعوا القهقرى وما كان ينبغي لهم ذلك وهو ما يفسر الدور المحوري للقوة الضاغطة للكيان الموازي.
ويمكن تسجيل أن أكثر ما يثير الاستغراب هو العقبات المطروحة أمام الموظف العمومي والتي تعيقه عن الرفع من مستواه العلمي بما يسمح له إعادة التصنيف في الأسلاك الوظيفية حيث يلزمه التخلي عن أي منصب يشغله أو علاوة يتلقاها مقابل السماح له بتكملة دراسته الشيء الذي خلق موظفين غير مواكبين لحركة التطور المستمرة مقيدين بالعقبات ومدفونين مع شهاداتهم.
كما أ ن إعادة هيكلة لنظام التقدمات وإصلاح جذري لوضعية الموظفين وتفعيل قوانين الوظيفة العمومية وتحيينها وإصلاح مدارس التكوين وتقليص مدتها ومرونة معادلة الشهادات وتسهيلها، أمور من ضمن أخرى تعتبر أولوية في أي عملية تهدف لإصلاح إداري.
وعلينا أن نعترف أن شفافية جلية طرأت على منظومة الولوج للوظيفة العمومية في العقد الأخير من خلال إتاحة المعلومات أمام الجمهور وإنهاء احتكار النافذين للمسابقات الوطنية،فقد باتت الإعلانات تذاع في وسائل الإعلام الرسمية وشكلت لجنة مستقلة للمسابقات عهد إليها بشفافية اكتتاب الشباب الموريتانيين في مرافق الدولة ومدارسها التكوينية بعدالة ومساواة.
لطالما كانت الوظيفة العمومية مطلبا أسمى لعديد الشباب الموريتانيين الراغبين في تحقيق ذواتهم وخدمة وطنهم وإثبات مهاراتهم وحق لهم ذلك، كيف لا وقد نجحوا في مسابقة تقدم لها آلاف من أمثالهم وقد قدموا لكيان منظم يخضع لقوانين تكفل لهم حقوقهم وتعمل على إنصافهم، لكن عدم تفعيل تلك الحقوق وتركها حبرا على ورق، وعدم وضع الصرامة في أولوية الموظفين بالمرفق العمومي وعدم تحديد معايير واضحة المعالم في ترتيب الترقيات والتقدمات يجعل الموظف العمومي على قدم المساواة مع غيره من الدخلاء.
فلا بد من العدالة في المجال الإداري وهو مطلب مشروع من أجل غياب واختفاء الحساسيات المجتمعية التي خلقتها معايير تتنافى مع كيان الدولة ومبدأها النبيل، فالقوة الناعمة للمجتمع أصبحت مع امتداد الزمن قوة خشنة نتيجة لتشكيلها للمشهد الوظيفي بألوان مناطقية وعشائرية بحتة.