حضور الاعلام فى ساحة القضاء

یولي الإعلام، في العالم المتحضر، اھتماما كبیرا بالشأن القضائي حیث یجد الصحفیون مادة تجذبھم لقصور العدل فالنزاعات وحلولھا تحكي قصصا متنوعة وذات شجون ویوجد في البلدان المتمدنة صحفیون مختصون في متابعة مجریات المحاكمات ونشر أخبارھا واستقصاء مآلاتھا وبینما تختص في متابعة مجریات التقاضي مئات المجلات والجرائد والمواقع الإلكترونیة في الولایات المتحدة وبریطانیا وفي الفضاء الآنجلو-سكسوني عموما، توظف وسائل الإعلام المعاصرة، في بلدان المعمورة الأخرى، صحفیین مختصین في متابعة الشؤون القضائیة.
1 .ففي فرنسا، التي اقتبست بلادنا من تشریعاتھا وتقالیدھا القضائیة الإجرائیة الكثیر، توجد ثلة صحفیة مختصة في نقل الأخبار القضائیة تقوم على مصالحھا رابطة الصحافة القضائیة
 Association de la Presse
Judiciaire
التي تضم في عضویتھا 231 عضوا بعضھم مستقل ویعمل أغلبھم لحساب مختلف وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئیة ولتسھیل المھام یحمل الصحفیون القضائیون بطاقات خاصة تخولھم ولوج المحاكم من الأبواب المخصصة لدخول القضاة والمحامین وكتاب الضبط.
أما التصویر والتسجیل في المحاكم الفرنسیة وبث مجریاتھا فقد مر بتطور یمكن اختزاله في أربعة مراحل:
أ. كان تصویر مجریات المحاكمات وبثھا مباحا في فرنسا حیث كان الصحفیون المصورون، في سعیھم لاقتناص أفضل اللقطات، یتخذون قاعات الجلسات استودیوھات ولأن الصور لم تكن تستغني عن الأضواء الكاشفة فقد أزعج ذلك القضاة ومن أمثلة الإحراج قیام أحد المصورین بتثبیت مصباح كھربائي في صدر قاعة محكمة بضاحیة فرساي لالتقاط الصور الأخیرة للمتھم Landru وھو یكتم الضحك كعادته إبان محاكمته الشھیرة التي جرت في باریس سنة 1921 وأفضت إلى إعدامه بالمقصلة، في السنة الموالیة، بعد إدانته باغتیال عشر نسوة لم یعترف بقتلھن ولم یعثر لأي منھن على أثر.. وفي غیاب نص یضع حدا لصولة الصحفیین تحمل القضاة الفرنسیون التشویش عدة عقود كان ومیض الأضواء الكاشفة (لفلاشات) خلالھا یخطف أبصارھم مما دفع الرئیس Favard لمخاطبة المصورین بعبارات لائقة تناقلھا الصحفیون كمثال على ضبط النفس الذي یلیق بالقضاة: "قلیلا من الحیاء أیھا السادة".
ب. بعد عقود من الھرج وسعیا للحفاظ على سكینة القضاء سنت السلطات الفرنسیة قانون 6 دجنبر 1954 الذي تم بموجبه إدخال تعدیل على قانون 29 یولیو 1881 المتعلق بحریة الصحافة ونص التعدیل على تحریم التصویر والتسجیل أثناء انعقاد جلسات المحاكم إلا بإذن استثنائي یصدر عن وزیر العدل وتم تضمین التحریم وعقوبة مخالفته في المادة 308 من قانون الإجراءات الجنائیة الفرنسي.
ج. خلال ثمانینات القرن العشرین بدأ التشكیك في ملاءمة استمرار حظر التسجیل والتصویر في جلسات المحاكم لما یؤدي إلیه من تبخر المرافعات الشفھیة الملھمة فخاطب وزیر العدل الجمعیة الوطنیة الفرنسیة قائلا: "لم یعد من المغتفر في زمن تطور الصورة والصوت أن لا تكون للعدالة ذاكرة حیة..". ونجح الرجل في إقناع البرلمان بإدخال تعدیل على قانون التراث یتم بموجبه تصویر المحاكمات ذات القیمة التاریخیة عرف بقانون (Badinter) اسم الوزیر الذي اقترح المشروع وبناء على قانون 11 یولیو 1985 ،بدأ تسجیل ونشر المحاكمات التي تصنف بأنھا تاریخیة.
د. ولم یكتف الفرنسیون بتسجیل وبث مجریات ثلاث عشرة محاكمة لتشكیل الأرشیف التاریخي لعدالتھم، وإنما تصاعدت المطالبات برفع الحرج عن تسجیل وتصویر مجریات المرافعات القضائیة عموما مما حدا بالسید Perben Dominique وزیر العدل في حكومة رافارین - حكم شیراك لإصدار قرار بتشكیل لجنة لدراسة إشكالیة التسجیل والنشر الإلكتروني لمجریات المحاكمات وختمت اللجنة المعروفة بتسمیة LINDEN (اسم القاضیة التي كانت ترأسھا) تقریرھا بتاریخ 22 فبرایر 2005 ونشرتھ وخلصت فیه إلى توصیات بإعادة النظر في حظر التسجیل والتصویر أثناء انعقاد جلسات المحاكم.
وتضمنت خطة العمل للمجلس الأعلى للقضاء الفرنسي لسنة 2007 ما نصه: "یتعین أن تنفتح المحاكم على وسائل الإعلام بأنماطھا الحالیة: إذ لا یسوغ أن نلاحظ نقصا كبیرا في انفتاح المؤسسة القضائیة ونستمر في رفض التفكیر في دخول المیكروفونات والكامیرات لقاعات المحاكم. لقد أضحت الصورة والصوت الناقل الأول للأخبار إلى الجمھور العریض. وإذا كانت العدالة تتطلع لأن تعرف بنفسھا وأن یفھمھا الناس، یتعین أن تلتفت إلى وسائل الإعلام المرئیة والمسموعة وأن لا تكتفي بالصحافة المكتوبة المخولة وحدھا دخول قاعات الحكم لنقل ما یحدث".
وفي ظل الحكومة الفرنسیة الحالیة عبر وزیر العدل Moretti-Dupont Eric - في نھایة سنة 2020 المنصرمة - عن سعیه لإلغاء العراقیل التشریعیة التي تحول دون تسجیل ونشر النقاشات القضائیة وأعرب عن أمله في أن یتحقق ذلك قبل نھایة فترة حكم الرئیس إیمانویل ماكرونه الحالیة وخاطب موریتي الفرنسیین قائلا: "أساند تصویر ونشر مجریات العدالة كي یراھا الفرنسیون. علنیة النقاشات ضمانة دیمقراطیة".
2 .كانت محاكمة النازیین سنة 1945 من أكبر المحاكمات زخما حیث حرص الحلفاء المنتصرون على جمع الصحفیین في بلدة نورنبرغ بألمانیا لنقل وقائع محاكمة الریش الثالث إلى العالم. وفي سنة 2005 تابع 
المھتمون بالصوت والصورة مجریات محاكمة الرئیس العراقي الراحل صدام حسین وكأنھم بالمنطقة الخضراء ببغداد وسمعوا اعتراضات الرجل ورفاقھ ولفتت الطریقة التي أدار بھا القاضي رزكار محمد أمین أثناء الجلسات الأولى من المحاكمة الانتباه. كما تابع الناس سنة 2011 عبر الشاشات محاكمة الرئیس المصري الراحل حسني مبارك وعندما قررت السلطات المصریة، خلال شھر دجنبر المنصرم (2020) اقتراح قانون یقضي بعقاب من یقوم بتصویر وإذاعة جلسات المحاكم انتفض الصحفیون المصریون الذین عبر نقیبھم الأسبق یحي قلاش عن موقفھم قائلا: "كارثة تنال من روح العدل الذي تعتبر العلانیة أحد دعائمه لأنھا تكرس ثقة الناس في القضاء وتضرب حریة النشر والحق الأصیل للمواطن في المعرفة وتتعارض مع مواد الدستور المصري والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعھد الدولي الخاص بالحقوق المدنیة والسیاسیة" وخلص قلاش لمطالبة الأطراف المعنیة بالتصدي، بالحوار، لما أسماه "الكارثة التي لم یستطع الاحتلال أن یفرضھا على المصریین ولا على صحافتھم ولا على قضائھم".
3 .وعلى حدودنا الشرقیة تمت محاكمة الرئیس المالي الأسبق موسى اتراوري أمام المحكمة الجنائیة بباماكو وتابع العالم صوره وھو یساءل أمام المحكمة وكان المنمون والمزارعون في الریف المالي یحبسون أنفاسھم قرب المذیاع لمتابعة مجریات محاكمة الرجل الذي حكمھم على مدى 23 عاما.. إلى أن نطقت محكمة جنایات باماكو بحكم إعدامه وإعدام ثلاثة من معاونیه یوم 12 فبرایر 1993 قبل أن یستفید من عفو رئاسي.
4 .أما في حدودنا الجنوبیة فقد توافد في منتصف شھر یولیو سنة 2015 إلى داكار زھاء ألف صحفي من أرجاء العالم لحضور محاكمة الرئیس اتشادي الأسبق حسین ھبري الذي حوكم بتھم ارتكاب جرائم ضد الإنسانیة وجرائم حرب وتعذیب واغتصاب في حق مواطنیھ وتمت المحاكمة بعد أن اتفق السنغال ومنظمة الوحدة الإفریقیة على إنشاء "الغرف الإفریقیة فوق العادة" CAE تجنبا لحرج تسلیم الكھل الإفریقي ومساءلته في الشمال خاصة بالنظر لصعوبات تنقل آلاف الشھود وعشرات الضحایا إلى أوروبا حیث تعھد القضاء ضد الرجل على أساس قاعدة الاختصاص الكوني في متابعة جرائم التعذیب.. ونقلت مجریات محاكمة ھبري بالصوت والصورة من داكار إلى العالم بأسره وبفضل التقنیات الحدیثة تمكن اتشادیون من متابعة شھادات حیة عن التھم الموجھة لرجل حكمھم ونكل بالكثیر منھم على مدى 18 سنة (من 1982 وحتى 1990) لأنه رفض الحدیث للمحكمة التي قاطعھا محاموه مما دفعھا، طبقا للإجراءات الجنائیة السنغالیة، لتعیین ثلاثة محامین من نقابة داكار لمؤازرته في مواجھة الأطراف المدنیة التي كان یمثلھا 15 محامیا من مختلف الجنسیات.. ورغم المھمة الصعبة دافع الزملاء الثلاثة عن متھم دأب على رفض التجاوب معھم.. 
وأسفرت المحكمة عن إدانة حسین بالسجن المؤبد سنة 2016 وتأكد الحكم علیه في طور الاستئناف السنة الموالیة.
5 .وفي الخلیج العربي تسعى وزارة العدل السعودیة لأن یعتمد القضاء كلیا على الوسائل الفنیة الحدیثة من تصویر وتسجیل وأن تستغني ھیئات الحكم عن الأوراق والأقلام مما یمكن القضاة أثناء المداولات من مراجعة التصریحات الحیة ومرافعات الأطراف ویتیح لھیئات الرقابة المختصة الاطلاع بمسؤولیاتھا باستعراض الأصوات والصور.. وفي أجواء الرعب التي سببھا 19 COVID تمكنت الإمارات العربیة المتحدة من عقد جلسات افتراضیة ناجحة تفاعل فیھا الأطراف مع المحكمة عن بعد باستخدام وسائط الاتصال الالكترونیة.
6 .وخلال سنة 2016 أمرت وزارة العدل المغربیة بتزوید محاكم المملكة، بما فیھا قاعات الجلسات، بكامیرات للتسجیل والتصویر في خطوة اعتبرت الوزارة أنھا ذات دواع أمنیة بالأساس واعتبر البعض أنھا تسھم في محاربة الفساد.
والخلاصة أن العمل الإعلامي الذي یعول علیه في إصلاح القضاء لیس من ھم الصحفیین وحدھم فللقضاة والمحامین دور إعلامي یجب علیھم الإطلاع به فواجب القضاة یقتضي الحرص على العلنیة المقـررة ضمن مبادئ المرافعات ومسؤولیة المحامین تتطلب توصیل قضایا موكلیھم إلى الجمھور الذي یساعد في إرساء العدل ولأن الظلم فعـل شنیع یحرص مقترفـوه على التستر علیه ویحرجھم إظھاره للعلن فمن العدل معاملة المتكتم بنقیض قصده.
وإذا كان واجب القاضي ھو التطبیق السلیم للقانون في فض النزاعات المعروضة علیه فإن دور المحامي یتمثل في تسخیر معارفه وجھوده لمساعدة موكلیه بإرشادھم إلى الطرق القانونیة الكفیلة بتحقیق مصالحھم والحفاظ على حقوقھم والدفاع عنھا حینما تكون مھددة وھو بذلك یخدم الحق ویساعد القضاء ولأن المشورة تقدم عادة في وسط خاص وفي أماكن مغلقة فإن حفظ سر الموكل یعد من أسباب الثقة في المحامي المستشار أما الدفاع والتمثیل القضائي، اللذین تتم ممارستھما من حیث المبدأ، في قاعات مفتوحة وخلال جلسات علنیة، فیقاس مستوى نجاح الدفاع فیھما بمدى توصیل قضیته إلى حیث ینبغي أن تصل ومن اللائق بالمحامین، قیاما 
بواجبھم، أن یصدعوا بقضایاھم وأن یتجنبوا التكتم على الظلم الذي كثیرا ما كان فضحه سببا في وضع حد له.
إن عمل القاضي والمحامي یتقاطع مع العمل الصحفي في اعتماد الثلاثة على التحریر فكما تتطلب الأحكام التعلیل منھجا للإقناع بمدى تأسیسھا، تتبع الاستشارات والعرائض والمذكرات خطا تحریریا یضمن وصول الخطاب للمستھدفین. وإذا كان مصطلح "العریضة الفاتحة للدعوى" ھو المتداول عندنا لتسمیة المكتوب الذي یقدم القضیة للمحكمة وتتعھد بناء علیه، فإن بلدانا مماثلة تستخدم تسمیة "المقال الافتتاحي للدعوى" وتسمى الردود والمذكرات بالمقالات الجوابیة وسواء سمینا المحرر عریضة أو مقالا فإن المحامي الذي یصوغه لا یستغني عن مھارة التحریر التي یحتاجھا الكاتب الصحفي مع أن لكل فـن قاموسه ومصطلحاته ولكل مھني أسلوب یمیزه.
وتتقاطع مرافعات المحامین وقضاة النیابة العامة (القضاء الواقف) مع المراسلات والتقاریر الصحفیة الشفھیة في أنھا تتطلب القدرة على الارتجال وغالبا ما یتألق فیھا ذوو الأصوات الجھوریة من ذوي الرسالة الإعلامیة عموما سواء كانوا قضاة أو محامین أو صحفیین.
ولتسلیط الضوء على التطور وبیان أنه یفرض نفسه وأنه لا سبیل لغض الطرف عنه، أختم ھذا المقال، بعرض موقفین یخدمان الموضوع عاینتھما بنفسي أمام المحاكم الوطنیة: فخلال السنوات الأخیرة من القرن المنصرم شھدت مدینة انواذیبو إحدى أكبر محاكماتھا في قضیة شملت العمدة وأمین عام البلدیة والمدیر الجھوي للخزینة وبعض رجال الأعمال بتھمة تبدید الموارد العامة والغیاب علیھا وأحیل مسؤولون كبار للمحاكمة التي انعقدت جلساتھا في قاعة محدودة السعة تختلف عن قاعات جلسات قصر العدل في انواكشوط الغربیة التي تضم شرفات معطلة، طالما علق علیھا الدفاع، وھي شرفات أعتقد أنھا أعدت أصلا لتمكین 
الصحفیین من متابعة مجریات المحاكمات.. كنت في صدارة محاكمة انواذیبو لأن المحكمة طلبت مني أن أترجم بینھا وبین المتھم كما عھد إلي العمید بال أحمدو تیدجان (الذي سیصبح بعد ذلك وزیرا للعدل ورئیسا للمحكمة العلیا) أن أنقل مرافعته الطویلة والبلیغة من لسان مولییر إلى اللغة الرسمیة.. ورغم المقتضیات القانونیة التي تحظر التسجیل في الجلسات الجنائیة فقد علمت آنذاك أنه تم تسجیل المرافعات وأن السلطات الإداریة كانت تتابع مجریاتھا كل مساء.. وبعد تدشین قصر العدل الجدید تمت محاكمة المتھمین بقتل أحمد ولد أما رحمه الله ورغم اتساع القاعة استشعـرت السلطات أھمیة إقناع الرأي العام فعملت على تزوید قاعة جلسات قصر العدالة في انواذیبو بشاشة عرضت أمام الجمھور إعادة تمثیل الجریمة البشعة التي راح ضحیتھا شیخ وقور قتله مشعـوذون من أجل استخدام دمه لإعداد خلطة سحریة، وكانت تلك الخطوة الأولى في الاستعانة بالسمعیات البصریة ولن تكون الأخیرة.

لقد تغیرت الحیاة الإعلامیة جذریا وأطل عصر "سلطان الكامیرا" التي أصبحت تتابع الناس في الأماكن العامة والخاصة وتترصدھم في الطرقات وحیثما كانوا وبفضل التقنیات تغلبت العدسات على قصور النظر ولم تعد تحتاج لأضواء كاشفة ولا تتطلب الدنو لتتبین ما یحدث وإنما ترمق من بعید وتضبط ما یتحرك في مجالھا دون زیادة أو نقصان ولأن الكامیرا كثیرا ما قطعت الشك بالیقین فإنني أرى تعدیلھا وإفساح مكان لھا في مجالس الحكم.

جمعة, 05/02/2021 - 10:19