ملّ اللبنانيون وكلّوا من الطائفية، بل شبعوا من توتراتها وشجاراتها اليومية، في الشوارع وفي المؤسسات وفي الفضاءات الإعلامية، إلى حد التخمة والتسمم.. لاسيما بعد أن أودت ببلدهم إلى أتون حرب أهلية دامت خمسة عشر عاماً، وعطلت ديناميات تطوره وفوّتت عليه كثيراً من فرص النهوض والإقلاع والتقدم، وهو البلد الجميل الذي كان ذات يوم عاصمةَ المال والبنوك والسياحة والثقافة في محيطه العربي ككل. وبعد كل هذه السنوات الضائعة من عمر لبنان (بلد الأرز)، وما عاناه خلالها من مصائب ومحن، بدأ اللبنانيون يدركون أن لا شيء يفرّقهم في الواقع، وأن خطوط التناحر والانقسام الطائفي وهمٌ كبير اصطنعته نخب واعتاشت عليه وحازت به لنفسها النفوذ والمال والسطوة، دون أن تعبأ بالغالبية الفقيرة حتى من داخل الطائفة التي تزعم التحدث باسمها والدفاع عن مصالحها في مواجهة الطوائف الأخرى (أو بالأحرى في مواجهة لبنان ككل).
بيد أننا في موريتانيا (الجميلة والعزيزة أيضاً)، حيث لم نجرِّب من قبل ما تجلبه التناحرات الفئوية من ويلات ومآس للبلدان والشعوب (باستثناء أحداث عام 1989)، هناك مَن يدفع نحو إذكاء صنوف متعددة من الطائفية؛ كالشرائحية والعرقية والقبلية والجهوية.. جاهلا بالعواقب الكارثية لما يريد أن يَدفع إليه، أو راغباً في نفوذ يكسبه من وراء طروحات تجزيئية تعلي من شأن تكوينات تعود إلى ما قبل الدولة الوطنية، متجاهلا كونها خطر شامل لا يستثني من شرّه المستطير أي جهة أو طرف!
حكّموا ضمائركم الإنسانية والوطنية والدينية، أيها الموريتانيون، واحذروا كل الحذر وأنتم تضعون في رؤوس نشئكم الصغير أفكاراً ذات طبيعة فئوية، أكان ذلك بتمجيد «الذات الفئوية» المتضخمة أم بشيطنة «الآخر الفئوي» المتوهم.. فكل ذلك سيفضي ببلدكم -وإن لم تقصدوا- إلى حالة من اللبننة هي أبعد شيء تحتاجونه حاضراً ومستقبلا، بل هي خطر وجودي آخر لا يقل في جسامته عن أخطار وتحديات أخرى، مثل التحدي البيئي متجسداً في خطر التصحر الزاحف على الرقعة الأرضية باستمرار، وخطر إضعاف البلاد معرفياً عبر تفريغ نظامها التعليمي وتدميره كلياً، وخطر إنهاكها اقتصادياً وتدمير قوتها البشرية من خلال جعلها سوقاً مفتوحة للأدوية المغشوشة والأغذية الفاسدة!
إن كل هذه المفاسد السياسية والاجتماعية والاقتصادية قرينة للطائفية والفئوية وما يجرّ إليهما من دعوات وادعاءات وطروحات، فلْنحذر اللبننة وكل ما هو على شاكلتها، في الواقع والمفهوم، مثل البلقنة والصوملة.