موريتانيا والمصالحة الخليجية

مضطرون لإعادة نشر فقرات مما كتبناه صبيحة قطع موريتانيا لعلاقاتها بقطر 7 يونيو 2017 تحت عنوان " شعرة رفيعة وأنقطعت " أولا لإتاحة الإطلاع عليه لمن لم يطلع عليه، وثانيا للتذكير به وقد مرت عليه ثلاث سنوات ونصف، وثالثا لأن هناك من لا يزال يعتبر، تصامما منه أو خدمة لأغراضه أو غيابا عن الساحة والأحداث، أن قطع تلك العلاقات لم يكن سوى " بيع موقف " للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وقد قلنا في ذلك المقال :

" إن المتتبع للأحداث ولعلاقات موريتانيا الخارجية يلاحظ ويدرك أن العلاقات الموريتانية القطرية لم تكن علاقات جيدة ولا هي بالقريب من ذلك خلال السنوات الأخيرة، أي قبل الأزمة الخليجية وقطع  البلدان الخليجية الثلاثة ومصر لعلاقاتها مع قطر بسنوات، فهي كانت من ذلك النوع من العلاقات التي لا أحد من الطرفين يريد تفعيلها ولا المبادرة بقطعها.. وذلك منذ الزيارات المتعددة والملفتة التي أداها الأمير القطري السابق لموريتانيا، والتي كان البعض يتساءل عن السر في تعددها وتقاربها، وماذا تريده قطر بالذات من موريتانيا! وإن كانت الأحداث أظهرت بعد ذلك أنها كانت من نوع تلك الزيارات وإظهار الإهتمام الذي تقوم به البلدان الغنية اتجاه البلدان الفقيرة المحتاجة للموارد، المستعدة للتنازل عن الكثير من قيمها ومحددات علاقاتها الخارجية وشؤونها الداخلية وسياداتها مقابل تلك الموارد. وكان من بين تلك الزيارات زيارة للأمير القطري الأب في عهد الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله، وبحث الأمير في تلك الزيارة أمورا سياسية داخلية حساسة بدا أن ولد الشيخ عبد الله أنصت لها مقابل وعود من الأمير بمواكبة موريتانيا تنمويا.

 خرج ولد الشيخ عبد الله من السلطة وتولاها الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز الذي حاول الأمير القطري أن يعرض عليه خلال زيارة له نفس الشروط بنفس الوعود، لكن الرئيس ولد عبد العزيز لم يستجب معتبرا عرض الأمير تدخلا في الشؤون الداخلية لسياسة البلد، ومنذ ذلك الحين لوحظ تعليق قطر لكل ما وعدت به من استثمارات، كتعمير الأرض التي اشترتها مؤسسة الديار القطرية شمال غرب نواكشوط لغرض إنشاء مركب سياحي، وكذلك بناء فندق " حمد " على شارع جمال عبد الناصر، وبناء مقر للجمعية الوطنية، بالإضافة إلى تعهدات مالية أخرى، بينما لوحظت مواكبة الهيئات والصناديق السعودية والكويتية والإماراتية لمشاريع التنمية في موريتانيا بدون انقطاع وبشكل معتبر، وذلك رغم حزمة المطالب والضغوطات السياسية التي مارستها كل من السعودية والإمارات على نظام الرئيس ولد عبد العزيز ورفض الأستجابة لها، نذكر منها طلبهما منه طرد السفيرين السوري والليبي في نواكشوط وهو ما تم رفضه، ثم طلبهما قطع العلاقات مع إيران الذي لم تتم الإستجابة له، وكذلك طلبهما منه إرسال الجنود الموريتانيين للقتال في اليمن ( الجهاد المقدس الذي تحول بعد الأزمة الخليجية إلى عدوان غاشم ) وهو ما رفضه الرئيس ولد عبد العزيز أيضا، دون أن ننسى ضغطهما عليه كغيره من القادة العرب من أجل مقاطعة القمة الإقتصادية العربية في لبنان 19 يناير 2019 فحط في بيروت للمشاركة في تلك القمة قادما من السعودية نفسها..

 وفي هذا رد، إذا لم يكن لقم لحجر لمن يقولون بأن قطع العلاقات مع قطر كان " بيع موقف " مقابل أموال السعودية والإمارات، بينما الواقع يقول إن الفرص كانت سانحة ومتعددة لبيع المواقف من قبيل كل المطالب والضغوطات أعلاه والتي طلبها ومارسها هذان البلدان على ولد عبد العزيز ورفضها.. وفيه أيضا تبيان للفرق بين ثمار وعائدات العلاقات بين أطرف الأزمة الخليجية، الفرق بين ثمار وعائدات العلاقات الموريتانية السعودية الإماراتية التي بقيت وتواصلت، ولم تتأثر بعدم الرضوخ لضغوطاتهما  في سبيل الإستجابة لما يطلبانه، وبين عائدات وثمار العلاقات مع قطر التي جُمدت وتم التراجع عما وُعد  به منها بمجرد أن طلبا واحدا لها بإشراك وتقريب تيار سياسي ترعاه تم رفضه! وسنكون ساذجين ومثاليين أكثر من اللازم إذا اعتبرنا أن العلاقات الخارجية الدولية عموما، وعلاقات موريتانيا الخارجية خصوصا كبلد بحاجة ماسة لدعم تنميته لا تُراعى فيها العائدات المادية من تلك العلاقات أساسا، مع المحافظة طبعا على الحد الذي تُمكن المحافظة عليه من احترام سيادتها وأمنها واستقرارها..!

 بعد تنحي الأمير القطري الأب، وتولي الأمير تميم لقيادة الدولة لوحظ أنه ينتهج في العلاقات القطرىة الموريتانية نفس نهج والده، وهو تطوير العلاقات المشروط بتقريب وإشراك النظام الموريتاني لأحد التيارات السياسية بعينه في الحكومة، وإن كان لم يزر موريتانيا كما فعل والده مرارا، واكتفى بتوجيه دعوة للرئيس محمد ولد عبد العزيز لزيارة قطر، وهي الدعوة التي تمت الاستجابة لها مع تراخ في تحديد موعدها إلى أن تمت على شكل مرور للرئيس عزيز بالدوحة في طريقه إلى نواكشوط  قادما من القمة الإفريقية الهندية في دلهي.. لم يستقبل الأمير الرئيس بالمطار كبادرة غير جيدة اتجاه رئيس دولة أنت من وجهت له الدعوة.. واقتصرت الزيارة على ساعتين فقط، ولم يصدر عنها أي بيان، ولم تتمخض عن نتائج كتلك التي تتمخض عادة عن زيارات القادة بعد توجيه الدعوة لهم، وبدا أنه لم يتم بحثه خلالها سوى إن كان الرئيس عزيز قد غير موقفه من الشروط القطرية القديمة مقابل استئناف ما يسمى ب " العلاقات المثمرة "، وهو ما كان معروفا أن موقفه منه لن يتغير باعتبار أنه يُصنفه تدخل في شأن موريتاني داخلي، ولا يعنيه إن كان البعض يعتبره حقا مشروعا لدولة قطر!

 لوحظ كذلك أن السفير القطري في نواكشوط كان من أقل السفراء العرب والأجانب نشاطا ولقاءات بالمسؤولين الموريتانيين بمن فيهم الرئيس خلال هذه السنوات، كما كان السفير القطري هو السفير العربي أو الأجنبي الوحيد الذي يتم استدعاؤه من طرف قيادة الأركان الموريتانية دون اتضاح أسباب الاستدعاء من مصادر رسمية، واستدعاء السفراء يتم عادة من طرف وزارة الخارجية كاحتجاج من بلد المقر على مخالفة للأعراف الدبلوماسية من قبل السفير، أو موقف غير ودي لدولته.. لكن استدعاء السفراء من طرف قيادة الأركان له طابع خاص ينم عن تصرف من نوع آخر للسفير أو دولته.. كما لوحظ تلقف قناة الجزيرة القطرية للخبر المزعوم عن إبرام موريتانيا لمعاهدة مع القاعدة ونشره على صفحتها قبل أن تحذفه وتعتذر عنه، لكن وقعه غير الودي كان قد أخذ مداه، دون أن ننسى حادثة القبض على عملاء لقطر على الحدود المالية في مهمة لم يُفصح عن طبيعتها أيضا، وإن كانت بطبيعة الحال مهمة غير طبيعية وإلا لما أختير للقيام بها عملاء!

 وكان من آخر تجليات غياب الود في العلاقات الموريتانية القطرية الوصول المتأخر و" المتثاقل " للأمير القطري لمطار نواكشوط للمشاركة في القمة العربية، وضبطه لساعته وحسابه الدقيق لساعات الطيران بحيث يكون وصوله متزامنا مع افتتاح القمة والرئيس الموريتاني يستقبل ضيوفها في مدخل خيمتها، ثم انسحابه دقائق بعد افتتاح القمة دون أسباب كتصرف أراد منه أن يكون هو الحدث الأهم من إعلانه حضور القمة أصلا، والذي ظهر فيما بعد أن الهدف منه لم يكن سوى قطعا للطريق أمام مشاركة بقية خصومه من قادة البلدان الخليجية في القمة أو تخفيض مستويات تمثيلهم فيها، حيث كانت الأزمة بينه وهذه البلدان يومها قائمة وإن كانت صامتة الصمت الذي يكون قبل الإنفجار.

 نكتفي بهذا القدر من فقرات المقال السابق وندخل في نقاش ما أعقبه، ونقول إن العلاقات الموريتانية القطرية مرت إذن بالكثير من مظاهرعدم الثقة البارز، والكواليس غير المريحة وغير المنشورة بعد، والتصرفات غير الودية من قطر اتجاه موريتانيا، وذلك سنوات قبل الأزمة الخليجية، واعتبر الكثير من المراقبين أن قرار قطعها كان على الطاولة حتى قبل قطع البلدان الأربعة لعلاقاتها بقطر، وصرح الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز في آخر مؤتمر صحفي له قبل مغادرته السلطة بأنه غير نادم على قطع تلك العلاقات، وأنه همَّ مرارا بقطعها ولولا تشبثه بميثاق جامعة الدول العربية القائم على التضامن والإيخاء العربي، والخوف من أن يشيع بأن موريتانيا أقدمت منفردة على قطع علاقاتها ببلد عربي عضو في الجامعة العربية لكان قطعها قبل القرار الجماعي بقطعها من طرف بقية البلدان الخليجية الثلاثة ومصر.

 القطيعة بين موريتانيا وقطر ليست إذن تركة من الرئيس السابق للرئيس الحالي لأن ملابساتها والأحداث التي سبقتها معروفة لديه ( متفريكه أعل راصو ) كما يقولون.. وليس أقل ذلك كونه هو من استدعى السفير القطري في نواكشوط في مكتبه عندما كان قائدا للأركان، ودار بينهما ما دار مما لم يتسرب منه الكثير وإن كان ليس طبيعيا ولا روتينيا، ولا يدخل في إطار علاقات سياسية أو اقتصادية لأن مكان ذلك هو وزارة الخارجية، ولا يدخل أيضا في إطار تعاون عسكري لأن مكان ذلك هو وزارة الدفاع، والأرجح هو ما تسرب عنه من أنه كان استدعاء احتجاج على تصرف قطري من نوع آخر غير سياسي، ونضيف إلى ذلك أيضا علاقاته المعروفه والوثيقة بحكام وقادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وهو لا يزال قائدا لأركان الجيوش، وغياب أي مبادرة أو تحرك منه بعد وصوله للسلطة للنزول عند رغبة من يعتبرون قطع العلاقات مع قطر أصلا كان " إقحاما " لموريتانيا في صراع خارجي وخضوع لسياسة محاور، بل عمل بدلا من ذلك على التأكيد على استراتيجية العلاقات الموريتانية السعودية الإماراتية التي وجدها أمامه، وعززها بزياراته المبكرة لهذين البلدين كاعتراف وعرفان منه لمكانتهما في العلاقات الخليجية الموريتانية.

 البعض الآن أصابعهم على الزناد وكانوا جاهزين لأطلاق الصيحات والكتابات بضرورة إعادة العلاقات مع قطر، والتسابق أيهم يكون الأول في اعتبار قطعها كان خطأ من أخطاء الرئيس السابق يجب تصحيحه، وارتهانا لمواقف خارجية يجب التحرر منه، بالضبط كألئك الذين سنسمعهم يقولون، فيما لو أعادت موريتانيا علاقاتها مع إسرائيل، إن قطعها أصلا كان خطأ من أخطائه..! لكن هؤلاء ( اتكّطعو لحبال فيديهم ) لأن الخارجية الموريتانية لم تُصدر حتى الساعة بيانا مرحبا بما أطلق عليه " المُصالحة الخليجية " بينما كانت سارعت إلى الترحيب بجهود تلك المصالحة قبل أسابيع، وأصبحوا ينتظرون موقف النظام من الموضوع ليَخيطوا عليه ما سيقولونه!

 معالجة أو الحديث عن العلاقات الموريتانية القطرية اليوم بشكل واقعي ينطلق من مصالح موريتانيا وسيادتها يتطلب أمثالي ( ولا فخر ) ممن لم يكن لديهم ما يخسرونه من النظام السابق ولا النظام القائم، وليسوا أيضا طامحين لما يخافون التضحية به جراء التعبير عن موقف اليوم، ولا من ألئك الذين تعودوا الحديث عن العلاقات الموريتانية الخليجية وأعينهم على تلك البلدان أو سفاراتها في نواكشوط انتظارا لإستدعاء في مقر سفارة وأخذ عمولة، أو تأشيرة لدخول أحد تلك البلدان والحصول على إقامة أو إكرامية جزاء على تمجيد ملك أو الثناء على أمير.. لأقول لمن يتحدثون اليوم أن موريتانيا أصبحت في حرج مما يسمى " المصالحة الخليجية " بعد تصالح الفرقاء من دونها أنه لا حرج ولا هم يحزنون.. فقطع العلاقات جاء أصلا بسبب تدخلات في شؤون موريتانيا الداخلية، وتصرفات استعلائية لا تُقدر ولا تحترم أعراف العلاقات والإحترام المتبادل الذي ألغته قطر من قاموسها الدبلوماسي يوم نصبت نفسها وكيلا عن الشعوب ومقررا لمصائرها، ومُفصلا لأنظمة الحكم وما يجب أن تكون طبيعتها، وراعية للحرية والديمقراطية خارج حدودها ونقيضا لنظام حكمها!، ولعلها اليوم أدركت أنها لا تمتلك مؤهلات ذلك ولا مقوماته لتتخلى عنه وتنشغل بشؤونها.

 وعليه فشروطنا لإعادة العلاقت مع قطر، إن رغبت في ذلك، مُسطرة في ديباجة إعلان القمة الخليجية الحاض على"  قيام العلاقات على أساس الإحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد أو استهداف أمنه، أو المساس بلحمته الإجتماعية " ويجب أن نقولها صراحة وبصوت عال لقطر ولغيرها أن دعم أي دولة لتيار سياسي أو عرقي أو طائفي في بلد آخر، والتمكين له سياسيا وماديا وإعلاميا هو مساس بلحمته الإجتماعية، ومن باب أحرى التدخل له والضغط من أجل إشراكه أو إبعاده عن سلطة الإشراك فيها أو الإبعاد منها من صلاحيات تلك السلطة ومن صميم الشؤون الداخلية لذلك البلد، فحكمنا في هذا الجانب هو حكم جمهورية مصر التي لا يعنيها من البيان الختامي للقمة الخليجية ما ورد فيه من اتحاد جمركي خليجي، أو سوق خليجية مشتركة أو غيره من أوجه التعاون البيني الخليجي ، وإنما يهما منه التزام قطر بأسس العلاقات الدبلوماسية، وعدم التدخل بأي شكل من الأشكال في الشؤون الداخلية لها، ولا ينبغي أن نكون نحن المهرولين اليوم، أو الجاثين بين يدي قطر توسلا لإعادة العلاقات معها لأن أسبابنا لقطع تلك العلاقات تعرفها هي ونعرفها نحن، وشروطنا لإعادتها أيضا معروفة وليست سوى التزامها بالتخلي عن تلك الأسباب لقيام علاقات على أسس جديدة رسختها المواثيق الدولية والأعراف الدبلوماسية منذ عقود وأهلا وسهلا بكل بلد يحترمها بعيدا كان أم قريبا غنيا كان أم فقيرا، مؤكدين أيضا على أن سياسة " صفر مشاكل " التي يُنظر ويروج البعض لها هي خرافة دبلوماسية لا تقوم أمام حرص ووقوف الدول أمام مصالحها الحيوية وسيادتها وأمنها واستقرارها في عالم يعج بالتنافس والمحاور والأطماع.. ومن يطمح أو يعمل على سياسة صفر مشاكل في عالم اليوم، فليبحث له عن كوكب آخر يقيم عليه كيانه!

محمدو ولد البخاري عابدين      

   

 

خميس, 07/01/2021 - 00:47