تشبه وضعية موريتانيا بعد ستين عاما من الاستقلال وضعيات البلدان التي عاشت أومازالت تعيش حروباْ أهلية منذ عقود؛ ففي كل مشهد ثمة شبه مكتمل الأوصاف بين واقع الحال في البلد وبين الصورة التي التقطت في الصومال في أوج الحرب الأهلية فيها؛ أوفي جنوب السودان أيام جون كارانك n Garang Joh...وحتى في رواندا إبان المذابح بين الهوتو والتوتسي.
فالبؤس مخيم على كل شيء وزحام الناس على نقاط المياه والمساكن الهشة مشاهد تطالعك يوميا في كل مدن موريتانيا؛ ناهيك عن طرق متهالكة وموادغذائية منتهية الصلاحية تنتشر في الأسواق؛ كل شيء في هذا الحيز الجغرافي يوحي بآثار حرب ضروس؛ ربما الشيء الوحيد الذي لاتسمعه هو صوت المدافع الثقيلة والقاذفات المضادة للدبابات ..بمعنى أنك أمام حروب من نوع آخر قد لاتكون أقل خطرا من تلك التي تواجه فيها الميلشيات بعضها بالأسلحة النارية..
المحير في الأمر أن موريتانيا واحدة من البلدان التي تزخر بوارد طبيعية هائلة..وعليها ديون تثير الصدمة في الكثير من تفاصيلها ؛ حيث تصل لميارات الدولارات من مؤسسات دولية مختلفة بما فيها صندوق النقد والبنك الدوليين .
وقد أعلنت حكومة البلد بعد سنة ونصف من التعهدات عن عجزها عن تسديد الأقساط التي تصل لعشرات ملايين الدولارات؛ الأمر الذي شكل سابقة من نوعها في تاريخ الدولة مع الدائنين ..وأعاد طرح السؤال القديم الجديد الذي يزداد غموضا مع كل حكم جديد. وهو إلى أين ذهبت كل تلك الميارات؟..
المتتبع للبنية التحية في المدن الكبرى لا يمكنه قطعا أن يجزم بأن ديونا وموارد من هذا الحجم ذهبت في تشييد الطرق السريعة والجسور العملاقة والمستشفيات الراقية ولا في المدراس التي تتوفر فيها أبسط المعايير. لكنه في الآن ذاته قد لايجد كبير عناء في ملاحظة الثراء الفاحش لطبقات بعينها؛ هذا في الوقت الذي يتحدث فيه الكثير من المراقبين وبعض أفراد الجالية المقيمن في الغرب ،خصوصا، عن استثمارات ضخمة لبعض المقربين من الساسة في موريتانيا...
كل هذه المليارات تم اخفاءها عبر تقنيات عجزت كل مافيات العالم عن اختراعها..فطبيعة تلك التقنيات المعقدة جعلتها تجمع بين الشعارات الزائفة وتسويق الإنجازات الوهمية؛ فضلا عن سياسات "التسكات" التي أخذت بعدا شرائحيا منذ عقد من الزمن تقريبا..
هذه التقنيات في الواقع ليست سوى أداة لحروب صامتة تحرق كل شيء في هذا البلد؛ والخطير فيها أن تأثيرها يدفع بعشرات الآلاف من الشباب للانضمام لصفوف الحركات المسلحة في الساحل ولعصابات المخدرات..كما تخلق عداوة لاإرادية بين النشأة ووطنهم..ليكونوا من حيث لا يحتسبون وقودا في هذه الحروب التي تشن ضد وطن لم يبق منه سوى ملامح جغرافية لا تعني عند الكثيرين من أبنائه سوى أطلال للتعاسة والظلم والأقصاء.
كان من الطبيعي أن تعتمد "الدولة العصابة" في ظل حروبها الصامتة على الوطن والمواطن سياسات لتكريس الفقر والجهل في محاولة منها للحفاظ الوضعية التي توفر فائضا من السيولة المريحة أو التي تعني في أدبيات القوم "الفظه البارده"؛ وفي هذا الصدد يمكننا فهم التركيز المعلن على الطبقات الهشة من خلال برنامج الشيله وتآزر؛ وهي برنامج لها في الحقيقة هدفان: أولهما تبرير انفاق المليارات تحت عناوين مساعدة الفئات الهشة وثانيهما صرف أنظار تلك الطبقات ،التي تعاني الأمية في أغلبها، عن المشاريع الحيوية التي يحتاجها الوسط الريفي؛ مثل إقامة السدود وتسييج مساحات متوسطة وكبيرة؛ حسب الكثافة السكانية؛ للزراعات الموسمية ..بالإضافة لإقامة مشاريع تجارية لتسويق الألبان مثلا ومشتقاتها لتعاونيات النساء الميعلات للأسر الفقيرة؛ أودعم المحروقات والمواد الأساسية؛ ولعل انفاق مليارات الأوقية وتحويلها عبر وكالة محلية ودفع ٢٢٥٠٠ لأكثر من ألفي أسرة هو نموذج فاضح لسياسات التفقير التي تشتغل بأداة "الكومسة" في محاولة جادة لتضييق الخناق على الفقراء حتى في فتات لن يزيدهم إلا فقرا.
إن الاهتمام المعلن بالتعليم ليس سوى خطوة استباقية لتجهيل الغالبية العظمى من المواطنين من خلال إقناعهم بتدريس أبنائهم في التعليم العمومي الذي أثبت فشله منذ عقدين من الزمن. وليس إغلاق المدارس خلال فترات متتالية سوى نموذج للتعليم الذي يراد لأبناء الفقراء ؛ فقد مضى عليهم أكثر من فصل دراسي دون إعطائهم بدائل لتدربس أبنائهم بحجة الحد من انتشار جائحة كورونا؛ هذا في الو قت الذي تعاملت فيه السنغال ودول مجاورة مع الجائحة واستطاعت المحافظة على استمرارية الدراسة بوسائل مختلفة.
مهما يكن من أمر فإن تكلفة حروب من هذا النوع لايشكل خطرا على سمعة بلد وعلاقته بشركائه الدوليين؛ بقدر ما يهدد كيانه ويجعل ساكنته مجرد مشاريع للا جائين قد لاجدون حيزا جغرافيا لاستيعابعم في ظل الأخطار التي تهدد شبه المنطقة..
د. أمم ولد عبد الله