اعتاد هذا الشعب المغلوب على أمره أن يرى في كل تغيير لرأس النظام أملا جديدا للخلاص من واقع يحمل في جميع مظاهره كل معاني الجائحة . فمن الهياكل تهذيب الجماهير ،التي لم يكن تهذيبها سوى صناعة نسخة جديدة من المعناة، إلى محو الأمية ومكافحة الفقر...
كانت كل الشعارات المرفوعة تحمل جوائح لاتنتهي وغير قابلة للتصنيف في ؛الآن ذاته؛ لأن معانيها تتجسد في أضدادها على الأرض؛ فمكافحة الفقر تعني التفقير ومحو الأمية اتضح أنه مجرد تجهيل مقنن وٌضع عبر إستراتيجية طويلة الأمد .كذلك هي محاربة الفساد والمفسدين ..المتتعب لشعارات الجوائح يلاحظ أنها كانت تتكون في الغالب من جملتين أو أكثر يراد لها حصر موريتانيا في زواية الجائحة "فتهذيب الجماهير" ..كان يعني في واقع الأمر تأديبها بالعصا وبقوة الحديد والنار .
أما شعار محو الأمية فليس سوى تجهيل يهدف لإفراغ كل العمليات التروبوية من محتواها ومنتوجيتها ..والأمر ذاته ينطبق على محاربة الفساد والمفسدين التي ليست سوى خلق لطبقات جديدة من المفسدين تهمين على رأس المال وكل مصادره العمومية ..المخيف في علاقة الشعارات بتفشي الجائحة هو إصرار كل الأنظمة المتعاقبة على جعل سياساتها مصدرا لجائحة لها أضرارها البالغة على البلاد والعباد..ورغم كون كل الدول التي حكمتها أنظمة ديكتاتورية تتفنن في صنع الكوارث لشعوبها ولديها قدرات خارقة على قلب كل استراتيجياتها المعلنة إلى مجرد شعارات لتكريس الألم؛ قد انتهى معظمها بحروب أهلية وربما بتدخل أجنبي ؛ حين قررت الشعب مواجهة الجائحة بصدور عارية؛ فإن موريتانيا شكلت لحد الآن نشازا على ذلك النمط الذي يمتاز بكون الجوائح فيه أصبحت مصدرا لعنف شعوب لم تعد تتحمل الموت على قارعة الشعارات الفارغة.
اليوم تمر موريتانيا بوضع حساس للغاية؛ فالممارسات السابقة خلقت اختناقا شعبيا خطيرا ..يتجلى من خلال نزعة شرائحية آخذة في التطور؛ بعد تنامي الشعور بخيبة أمل لدى الطبقات الكادحة..يضاف إلى ذلك كون موريتانيا تعيش بين جائحتين إحداهما مزمنة؛ أما الثانية فقد فرضتها ظروف صحية عالمية؛ مع كون العقل الجمعي لدى العامة يرجعها لماتسميه المخيلة الشعبية بالشؤم ..أو " اللعك"..
والحقيقة أن انتقال الشعارات من مرحلة الوعود إلى التعهدات الفارغة ساهم هو الآخر في خلق ضغط نفسي كبير وشعور بالاحباط لدى معظم أفراد هذا الشعب الذي استبشر خيرا بتعهدات كان يعتقد أن لها معنى بالفعل.. قبل أن يكتشف أن سياسات النظام الحالي تدفعه بقوة لتحصره بين جائحتين تشكل كلا منهما خطرا على استمرار موريتانيا.
1- فالجائحة الأولى التي تسبب فيها فيروس كرونا لم يتعامل معها النظام بما تقتضيه مصلحة الشعب ..بل لجأ لغلق الأسواق وحظر التجوال؛ مصادرا بذلك جميع وسائل رزق الطبقات الهشة في المدن الكبرى ومعرضا أكثر من 80% من السكان للموت جوعا..وليس من المستغرب أن تنتشر السرقة ومهاجمة المنازل وتحطيم السيارات ؛ رغم سريان حظر التجوال الليلي....
ولأول مرة في تاريخ موريتانيا تغلق المدن أمام الداخلين فيها بطرق قانونية؛ لصيبح دخولها مزادا علنيا لمن يدفع أكثر ؛ ولعل وصول سعر دخول مدينة نواكشوط إلى 50 ألف اوقية قديمة/ 100$دولار أمريكي ؛ ضاعف هو الآخر من آثار الجائحة على أصحاب الأمراض المزمنة الأكثر فقرا .
2- الجائحة الثانية: لم يترك الشعب يواجه جائحة كورونا بوسائله المحدودة فقط، بل إن الدولة فرضت عليه ضرائب باهظة لا تستطيع 90% من سكان هذه الأرض تحملها؛ مثل ضريبة دخول نواكشوط والمدن الكبرى؛ فضلا عن مصادرة وسائل رزقه بقوة العسكر..بمعنى أن الكارثة لم تنته عند هذا الحد المورع ؛ الذي كان يكفي للقضاء على شعب ينهكه الفقر والتجويع منذ أكثر من ستة عقود.
فقد ظهرت جائحة إعادة تدوير المفسدين بالتزامن مع انتشار كوفيد 19 في تخل سافر عن تعهداتي وتكرار لتجارب مريرة سابقة ؛ رغم الاختلاف الجذري للمعطيات؛ لا يمكن تحملها في ظل الوضعية الراهنة للبلد .
الخطير في جائحة إعادة التدوير هو محافظتها على استمرارية وضع يدفع بالدولة نحو الانهيار ؛ فلا يمكن أن تظل السلطة والمال دٌولة بين طبقات محدودة؛ تحتكر معهما كل الوظائف باستثناء الصحة والتعليم الأساسي والثانوي؛ لتعيد إنتاج الجوائح بصورة تهدد السلم الاجتماعي في الصميم.
إن خروج موريتانيا من جائحتين بهذا الحجم يتطلب اتخاذ قرارات جادة بعيدة عن تكرار سيناريوهات صناعة الوهم المرحلي؛ التي أصبحت أهم دافع للعنف الشرائحي؛ وإلا فإن نتائج الجائحتين ستعجل لامحالة بنهايات مؤلمة لكل أمل في بناء وطن يتعايش الجميع فيه بسلام؛ والحق أن وضعا هكذا تتحمل مسؤولياته طبقات بعينها كانت ومازالت عنصرا فاعلا في صناعة الجوائح التي اخطرها الجائحتين اللتيين تمربهما موريتانيا حاليا ...
د. أمم ولد عبد الله