ليلتها كانت أضواء المراكب التي تعبر الجانب الغربي من دجلة فاترة وكانت جلبة المارة بأزقة الكرخ كئيبة مزعجة لإبن زريق وهو يتقلب ذات اليمين وذات الشمال في فراشه !
آه ما أشد لؤم الحب كيف تخلى عنه بعدما تزوج حبيته وابنة عمه ؟ ، كيف لم يخبره أن الخبز والعيش الرغيد ليسا بالضرورة من لوازم الحب ؟
ككل أهل بغداد والمشرق عامة فكر ابن زريق في فردوس العرب في مغرب الأرض وعزم على الرحيل الى قرطبة ، وفي الصباح أخبر حبيبته بأمر الرحيل فتشبثت به باكية متوسلة أن لايرحل لكن الأمر قد قضي وودع المسكين حبيته على طريقته :
أستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً:: بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي :: صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
وكم تشفَّع فى أن لا أفارقه:: وللضرورة حالٌ لا تُشَفِّعُه
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً:: وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ .
.
......عبر ابن زريق القفار والبحار وكابد الحر والبرد والمرض ليصل الى بلاد الأندلس فوقف أياما عند باب قصر الأمير عبد الرحمن وهو يمني نفسه بأكياس الدنانير و بأثواب الحرير وقوارير العطر التي سيجلبها لقمره في الكرخ ! ، لكن الأمير لم يقدر مديحيته وأعطاه دنانير معدودات فجال المسكين بأزقة قرطبة يعد دنانير الخيبة التي لاتكفيه للمبيت في أحد خانات تلك المدينة العاهرة وقتها .
في البرد والرطوبة جلس ابن زريق يندب حظه ويلوم نفسه قيقول :
رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ ::وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ
وَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا ::شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ
اِعتَضتُ مِن وَجهِ خِلّي بَعدَ فُرقَتِهِ::كأساً أَجَرَّعُ مِنها ما أَجَرَّعُهُ
كَم قائِلٍ لِي ذُقتُ البَينَ قُلتُ لَهُ:: الذَنبُ وَاللَهِ ذَنبي لَستُ أَدفَعُهُ .
........ليلتان من البرد كانتا كفيلتين بمرض ابن بغداد الذي أعتاد هواء الكرخ لكنه لم يفقد الأمل في العودة الى زوجته الحبيبة إذ يقول :
عَسى اللَيالي الَّتي أَضنَت بِفُرقَتَنا:: جِسمي سَتَجمَعُنِي يَوماً وَتَجمَعُهُ .
.........ثم يهطل المطر وتشتد الحمى على ابن زريق فيتحول الأمل الى شك وريبة :
هَل الزَمانُ مَعِيدُ فِيكَ لَذَّتُنا :: أَم اللَيالِي الَّتي أَمضَتهُ تُرجِعُهُ
فِي ذِمَّةِ اللَهِ مِن أَصبَحَت مَنزلَهُ:: وَجادَ غَيثٌ عَلى مَغناكَ يُمرِعُهُ
مَن عِندَهُ لِي عَهدُ لا يُضيّعُهُ:: كما لَهُ عَهدُ صِدقٍ لا أُضَيِّعُه
وَمَن يُصَدِّعُ قَلبي ذِكرَهُ وَإِذا ::جَرى عَلى قَلبِهِ ذِكري يُصَدِّعُهُ .
..........وتشتد الحمى اللعينة فيتحول الأمل الى إيمان ورضاء بقضاء الله فيقول :
وَإِن تَغُلُّ أَحَدَاً مِنّا مَنيَّتُهُ:: فَما الَّذي بِقَضاءِ اللَهِ يَصنَعُهُ
وأخيرا يأتي الموت ليسدل الستار فتنتهي مسرحية أجمل قصيدة قالتها العرب .
بابه ول أربيه