ذكرني الجدل الذي أثاره تجنب الدبلوماسي المصري الكبير، عمرو موسى، ذكر أي موريتاني ممن تعامل معهم في مواقع مختلفة، في الجزء الجديد من مذكراته والمتعلق بسنواته على رأس الجامعة العربية، بمشاهد متكررة من سرعة تبخر الأسماء الموريتانية من الذاكرة.
وهي ظاهرة لا أجد لها سببا ولا تفسيرا ولا سرا، رغم أنها واقع يتكرر ربما لليوم عشرا.
قبل فترة، سئل عمرو موسى نفسه، وهو الذي تربع عشر سنوات متتالية، على رأس الأمانة العامة للجامعة العربية، وقضى قبلها عشرا أخرى، وزيرا للخارجية في مصر، هل يذكر اسم أحد وزراء الخارجية الموريتانيين، الذين تعامل معهم، فرد بكل بساطة: بالتأكيد لا..!!
لم يكن نسيان الأسماء هو اللافت، ولكن ما يثير الاستغراب هو كلمة "بالتأكيد" التي تجعل الأمر تحصيل حاصل.
قبل نحو سنوات، وفي حوار تلفزيوني، وجد رئيس الحكومة الليبية الأسبق، المرحوم محمود جبريل، وهو يتحدث عن الوساطات التي عرفتها بلاده قبل سقوط نظام القذافي، وجد صعوبة في تذكر اسم الرئيس الموريتاني، فتلعثم قبل أن يتوصل إلى خلطة غريبة ناطقا الاسم على النحو التالي: محمد ولد معاوية، جامعا دون أن يعلم بين مرحلتين متباينتين من تاريخ البلاد، قبل أن يتدخل محاوره، ويسعفه بالاسم الصحيح..
وفي مذكراته "ذاكرة ملك" تنكب العاهل المغربي السابق، الحسن الثاني، ذكر اسم الرئيس الموريتاني، المختار ولد داداه، حليفه في الحرب بالصحراء الغربية، ولو مرة واحدة، حتى إذا اضطر مرة للحديث عن لقاء ثلاثي حاسم في التطورات التي سبقت هذه الحرب، إذا به يقول: "اجتمعت أنا والرئيس أبو مدين، ورئيس موريتانيا"
هكذا دون ذكر اسمه!!
وكما يبدو في هذه الحالات الثلاث، ليس سهلا بالنسبة للأجانب، تذكر الأسماء الموريتانية أو نطقها.. بل وحتى مجرد كتابتها..
ويكفي أن تنتبه إلى المجهود الكبير، الذي يبذله الضيوف الأجانب، لدى استقبالهم من قبل الرئيس الموريتاني – أيا كان – في نطق اسمه بشكل دقيق، بل قد يتطلب الأمر – غالبا – من بعضهم الاستعانة بورقة تحمل الاسم الكامل مكتوبا بوضوح، ساعة التصريح التقليدي لدى الخروج من قاعة الاستقبال، وبعضهم – تجنبا للمطبات – يكتفي بالصفة دون الاسم..
ولا ننسى الصعوبات التي يواجهها الصحفيون الأجانب، وهم يحاولون نطق الأسماء الموريتانية على الوجه الصحيح..
وكل المتعاملين مع الأجانب من الموريتانيين، مهما كان السبب، يعرفون هذه الحقيقة الغريبة، فكل المذكرات التي كتبها كبار الفاعلين في الساحة الدولية، وحتى في العالم العربي وإفريقيا، ممن كتب لهم الاحتكاك بنظرائهم الموريتانيين، لن تجد أسماء موريتانية - في الغالب – ففي أحسن الأحوال يقتصر الأمر على ذكر الصفة دون الاسم، كما فعل ملك المغرب الراحل في "ذاكرته".
الطريف أنك مهما توطدت صلتك بأي أجنبي، أيا كانت جنسيته، فإنك بعد طول عشرة، ستكتشف – للأسف - أنه لا يعرف اسمك!!
وليس لك بعد ذلك أن تطلب شيئا آخر..
جمعني العمل بزميلة من منطقتنا المغاربية في بلد بعيد، وصارت صديقة كل أهل البيت، "رفعنا معها الكلفة" تماما – كما يقال - وصارت تزورنا، بدل المرة عشرا، واضطررت ذات يوم، أن أتصل بها هاتفيا، من المنزل، لأطلب منها، وهي في مقر العمل، أن تنوبني في تقديم طلب إداري مستعجل.
بعد قليل اتصلت بي تريد أن "أذكرها" باسمي (!!)، ولما "ذكرتها" به، إذا بها تتهجاه بصعوبة بالغة.. كأنها تسمعه لأول مرة!!
وأعرف دبلوماسيا موريتانيا، جمعته ظروف العمل بدبلوماسي عربي، في بلد غربي بعيد، وافترقا ومرت الأيام، ثم اجتمعا مرة أخرى، وقضيا سنوات في بلد آخر، لكن الطريف أن هذا الدبلوماسي العربي، حتى اليوم، لا يعرف اسم زميله، وقد مرت على صداقتهما سنوات، فيها تبادل زيارات ومودّات واجتماعيات، كنت شاهدا على جانب منها!!
ستتفاجأ حين يقابلك أجنبي، إفريقي، أو عربي أو غربي أو من بلا الواقواق - ويقول لك إنه اشتغل أو درس مع موريتاني، ولكنه لا يذكر اسمه، وربما تذكر في أحسن الأحوال، أنه كان "ولد" وهي لازمة تتكرر كثيرا، في أسماء أغلب البيظان الموريتانيين.
وقد عبر عن ذلك مصري قدمني إليه زميل مرة، فبادرني بالقول: أنت "ولد" مين بقى ؟!! قبل أن يضيف، بخفة الظل المعروفة عن المصريين، أنتم كلكم "أولاد" ثم أشفعها ببهارات من عنده فزاد عبارة "كويسين".
الطريف أن الظاهرة قديمة، فنحن نجد جذورها في التقارير والكتابات الأوروبية، التي تتحدث عن مختلف مراحل العلاقة بين الأراضي الموريتانية وسكانها بالقوى الغربية الاستعمارية على مدى قرون.
ففي معظم هذه الوثائق، تصحيف غريب لأغلب أسماء الأعلام، التي ترد في ثناياها، حتى لا يتبادر للذهن من الوهلة الأولى، وربما بصعوبة بالغة، من هم أصحاب هذه الأسماء.
وهو ما يجعل من الصعب، بالنسبة لغير العارف المدقق، والمطلع على رجالات وأعلام هذه المراحل التاريخية، أن يعرف من المقصود بالمجريات التي يتناولها الحديث..
وفي السنغال القريب جدا – حد الالتصاق - وفي مناطق أخرى من غرب إفريقيا، ما زال اسم البيظاني الموريتاني، على العموم، دون تمييز، حامت (وهو نطق تصحيفي لأحمد أو محمد) أو في أحسن الأحوال أحمد أو محمد( لمن يهتم بالفصاحة).. ومادمنا كذلك لدى أقرب الناس فلا يمكن أن نلوم الآخرين.
صحيح أن بعض أسمائنا صعبة النطق، وبالتالي التذكر والكتابة، كالأسماء ذات البنية البيظانية الخالصة، أو تلك التي يغلب عليها الطابع البربري، أو ذات الجذور الإفريقية البحتة.
ولكن هذه الروافد تشكل - ولو جزئيا - العناصر المشكلة لمنظومة الأسماء في بلدان قريبة، ولم يمنع ذلك من شيوع أسماء أهلها، ثم إن غرابة الاسم، وصعوبة مخارجه ووعورة "تضاريسه" لم تمنع أسماء الاسكندنافيين وأفارقة المناطق الاستوائية، وسكان أجزاء كبيرة من آسيا مثلا من الانتشار.
أفلهذه الدرجة تبدو للآخرين أسماؤنا سريعة الذوبان!!