
منهج تحفيظ القرآن الكريم في بلادنا في ضوء المنظور الشرعي والمناهج التربوية الحديثة
(دعوة لمراجعة أساليب التأديب العنيفة)
القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة لرسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام وهو كتاب الهداية ونور الحياة المنقذ من الضلال .
والآيات الكريمة والأحاديث الشريفة مليئة ببيان عظمته وبركته وأجر قرآته وتدبره، لذلك اهتم السلف الصالح به تعلما وقراءة وحفظا وتجويدا وتدبرا وعملا بما أرشد إليه واجتنابا لما نهى عنه.
قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾
وقال تعالى:﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ﴾ .
وقال تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله أهلين من الناس، قالوا يا رسول الله: من هم، قال: هم أهل القرآن أهل الله وخاصته)).
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه)).
اهتمام المسلمين بالقرآن الكريم
مرت معنا بعض الآيات والأحاديث التي تبين عظمة ومكانة القرآن الكريم وتحث على تعلمه وحفظه ، وقد دأب المسلمون منذ عهد الصحابة رضون الله عليهم إلى يومنا هذا على العناية بالقرآن الكريم حفظا وقراءة وتجويدا وتدبرا.
وقد شهد هذا العصر إقبالا كبيرا، بفضل الله، على القرآن الكريم فانتشرت مدارس تحفيظ القرآن الكريم في كثير من اقطار العالم وكثرت مسابقات حفظ القرآن الكريم في معظم الدول الإسلامية وخارجها.
وبالنسبة لترتيب الدول، حسب عدد من يحفظون القرآن ، فقد أعلنت منظمة اليونسكو، في 2024 ، تصنيف المملكة المغربية في المركز الأول عالميا من حيث عدد حفظة القرآن الكريم.
وفي إحصائية أخرى نشرت عام 2023 احتلت الدول التالية المراتب الأولى في عدد حملة كتاب الله :
١- ليبيا
حصلت على لقب بلد المليون حافظ للقرآن الكريم إذ يمثل حفظة القرآن الكريم خمس السكان، ويصنف حفظة كتاب الله في ليبيا في مقام خريجي الجامعة من ناحية التعيين الوظيفي.
٢- المغرب
٣- مصر
٤- السعودية
٥- الأردن
وعلى ما يبدو فإن هذه الإحصائية تقدم أرقاما مجردة بغض النظر عن عدد السكان وإلا فلو كان التصنيف حسب نسبة الحفظة إلى عدد السكان لتغير الترتيب.
ظاهرة الضرب على حفظ القرآن
اهتم السلف والخلف كما ذكرنا بحفظ القرآن الكريم فكان المسلمون يحرصون على تحفيظ أبنائهم كتاب الله ولذلك اتبعوا، عن حسن نية على الأرجح، أساليب يغلب عليها العنف والإكراه البدني العنيف كالضرب والتعنيف اللفظي في مخالفة صريحة لأحكام الشريعة ودون مراعاة للأبعاد التربوية في المنهج التعليمي خاصة في العصر الحديث.
وقد قسم العلماء الضرب إلى نوعين:
النوع الأول: ضرب تعذيب، والأصل فيه أنه حرام؛ لأنه انتهاك لكرامة الإنسان، وذلك إذا كان بغير حق، وأجازوه إن كان من باب التعزير فيما ليس فيه حد، ورأت السلطة المعنية أن الضرب في مثل هذه المخالفات رادع للإنسان عما يرتكبه من المخالفات والمحرمات.
النوع الثاني من الضرب، هو ضرب التأديب، أي الضرب الخفيف جدا الذي لا يؤثر على جسد الإنسان، ويكون كما قال ابن عباس: بالسواك ونحوه.
وإذا نظرنا إلى هذين النوعين من انواع الضرب نجد أن النوع الاول لا ينطبق على تعليم القرآن للأطفال، إذ أن الأطفال عندما يتعلمون كتاب الله لا يرتكبون جرما يستوجب النوع الأول وهو ضرب التعذيب،
أما النوع الثاني فإن سلمنا أنه ينطبق عليهم إلا ان ما نشاهده من ممارسات بعض معلمي القرآن الكريم يخرج عن طور التأديب وفق الضوابط الشرعية ليصبح تعذيبا واعتداء على حرمة وكرامة الأطفال الأبرياء.
يستشهد الذين يصرون على ضرب الأطفال على الحفظ بحديث عمرو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ ).
هذا الحديث في ظاهره يتعلق بأمر الأطفال بالصلاة في سن معينة ثم ضربهم عليها عند بلوغ العاشرة وذلك لمكانة الصلاة في الإسلام فهي فريضة وهي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين لأنها عماد الدين، ولذلك يجب تعويد وتربية الأبناء عليها منذ الصغر.
أما حفظ القرآن الكريم فقد بين الفقهاء ما يجب منه وما لا يجب
فذهبوا إلى أن حفظ ما عدا الفاتحة وسورة معها من القرآن الكريم ليس فرض عين على كل مسلم، بل هو فرض كفاية، فإذا حفظ عدد من المسلمين القرآن في مجتمع معين سقط الإثم عن البقية.
قال السيوطي رحمه الله: "اعلم أنَّ حفظ القرآن فرض كفاية على الأُمة؛ صرح به الجرجاني في الشافي، والعبادي، وغيرهما".
وقال ابن عبد البر:
(فأول العلم حفظ كتاب الله تعالى وتفهمه، وكل ما يعين على فهمه فواجب على طالب العلم أن يطلبه.
ثم قال رحمه الله: ولا أقول: إن حفظه واجب فرض، بمعنى: أنه يأثم من ترك حفظ القرآن، ولكن أقول: إن ذلك واجب ولازم على من أحب أن يكون عالماً أن يحفظ كتاب الله تعالى، ولكنه ليس من الواجبات والفرائض التي يأثم الإنسان بتركها، ثم قال: فمن حفظه قبل بلوغه ثم فرغ إلى ما يستعين به على فهمه باللسان العربي، كان ذلك عوناً له كبيراً على مراده من طلب العلم، وعوناً له على ضبط سنة النبي صلى الله عليه وسلم).
إن بعض معلمي القرآن لا يكتفون بالضرب وممارسة أشكال التعذيب بل عندهم سخاء في العنف اللفظي والسخرية من الأطفال.
يقول العز بن عبد السلام رحمه الله : (ومهما حصل التأديب بالأخف من الأفعال والأقوال لم يعدل إِلى الأْغلظ إذ هو مفسدة لا فائدة فيه لحصول الغرض بما دونه) .
وأكثر من ذلك فبعض المعلمين يدعو على الأطفال بدل الدعاء لهم وهذا مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم الدعاء على الأولاد ( لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ ).
ضوابط الضرب عند الفقهاء وشروطه
ذهب كثير من الفقهاء إلى أن الضرب ينبغي ألا يزيد على عشرة أسواط، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يجلد أحد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله).
قال في التاج والإكليل: “ونقل ابن عرفة في التأديب أنه يكون بالوعيد والتقريع لا بالشتم، فإن لم يفد القول انتقل إلى الضرب بالسوط من واحد إلى ثلاثة ضرب إيلام فقط دون تأثير في العضو. قال أشهب: إن زاد المؤدب على ثلاثة أسواط اقتص منه”.
وجاء في مقدمة ابن خلدون: “قال أبو محمد بن أبي يزيد في كتابه عن المعلمين والمتعلمين: لا ينبغي لمؤدبي الصبيان أن يزيدوا في ضربهم -إذا احتاجوا إليه- على ثلاثة أسواط”.
ومن شروط الضرب
- أن يجتنب الوجه والأماكن الحساسة:لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تضرب الوجه ولا تقبح..) ويدخل في هذا النهي عن ضرب الأماكن الحساسة كالرأس والقلب والبطن والصدر ، لأن ذلك قد يؤدي إلى الهلاك.
- أن تكون وسيلة الضرب غير مؤذية،فقد ذهب كثير من الفقهاء إلى أن الضرب يجب أن يكون بشيء خفيف، أو بمنديل، وقيل يجوز استعمال السوط أو العصا بشرط أن يكون الضرب خفيفاً، أي يلوح بالعصا أكثر من أن يضرب بها.
- ألا يجمع المربي بين الضرب والسب والشتم كأن يقول: يا كلب يا قرد، يا كذا يا كذا..
وقد أجمل بعض أهل العلم ضوابط الضرب في النقاط التالية:
1- أن لا يتخذ الضرب عادة.
2- أن يكون للتأديب لا للانتقام.
3- أن يكون بما لا يكسر عظما أو يخدش جلدا.
4- أن لا يصحبه توبيخ.
5- أن لا يكون أمام زملائه ولا أمام من يحب.
6- أن يتوقف المربي عن الضرب إذا اعتذر أو بكى أو هرب، أو سأله بالله.
7- أن لا يزيد عن عشرة أسواط.
8- أن لا يقل عمر الطفل عن عشر سنوات.
9- أن تكون العقوبة على قدر الذنب.
10- أن يكون الطفل ممن يصلح معه الضرب
دول انتبهت لخطورة ضرب الأطفال على القرآن
ضجت مواقع التواصل الاجتماعي في ليبيا قبل فترة حول واقعة
تعرض طفل للتعذيب والضرب المبرح ولعقاب شديد من قبل إمام مسجد في إحدى المدن الليبية،
داعين إلى ضرورة القبض على المدرس وإلى ضرورة تغيير الأساليب المتبعة في التدريس وتلقين القرآن الكريم للطلاب، واستخدام الأساليب الحديثة التي تخلو من العنف.
وفي يوليو سنة 2024، نظمت وزارة الداخلية وزارة التربية والتعليم الليبيتين ندوة حوارية بشأن آثار العنف المدرسي ضد الأطفال.
وناقش المشاركون في الندوة من قيادات الوزارتين ومراكز الصحة النفسية والمعنيين بالأمر الموضوعات المتعلقة بالعنف ضد الطلاب والتلاميذ وأبعاده، ومعالجات وتقييم آليات التدخل والاستجابة.
وشدد المشاركون على ضرورة نشر الثقافة والتوعية بخطورة العنف وسبل الوقاية منه.
وأشار تقرير صادر في ليبيا سنة 2020، إلى أن أعضاء هيئة التدريس يمارسون “الرهاب اللفظي” ويعرضون الطلاب للضرب المبرح، ما أسفر عن حالة كراهية شديدة لدى الطلاب، تجاه التعليم والمدرسة. وتنص المادة الأولى من القانون الخاص بقواعد تهذيب الطلاب في ليبيا على أنه “يمنع منعاً باتاً على مديري المدارس والمعلمين وغيرهم من العاملين بالمدارس، استعمال الضرب والعنف بجميع أشكاله ضد التلاميذ والطلاب، وعلى أن من يخالف ذلك يعرض نفسه للمساءلة القانونية”.
في المغرب
اعتبر الشيخ محمد الفزازي، رئيس الجمعية المغربية للسلام والبلاغ، أن تعنيف الأطفال أثناء تحفيظهم القرآن الكريم في المسجد، يُعد تعذيبا وسلوكا إجراميا مشينا لا علاقة له بالشرع الإسلامي، مشددا على أنه “ليس من شرع الله تعالى ضرب الأطفال لتحفيظهم القرآن”.
جاء ذلك تفاعلا مع الجدل الذي أحدثه مقطع فيديو تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي، يظهر فيه “فقيه” بإقليم شفشاون وهو يعاقب أطفالا صغارا يحفظون القرآن الكريم عنده بطريقة عنيفة، وذلك عبر ضربهم على أرجلهم ضمن ما يُسمى شعبيا بـ”الفلقة” أو “التحمال”.
وقال الفزازي في تصريح لجريدة “العمق”، إن تعنيف الأطفال لتحفيظهم القرآن أمر مخالف للشرع والقرآن الذي بُني على الرحمة، مستغربا “تحفيظ وتدريس كتاب الرحمة للأطفال بالتعنيف والترهيب والجلد”، منبها إلى أن الضرب والعنف ينعكس سلبا على الأطفال.
وحذر من أن ضرب الأطفال الصغار بتلك الطريقة قد يحدث لهم عاهات مستديمة وقد يصل الأمر لا قدر الله إلى القتل، مشيرا إلى أنه لا ذنب للأطفال إلا أنهم لم يتمكنوا من حفظ جزء من القرآن لسبب معين أو مرض، علما أنهم يعيشون مرحلة اللعب أساسا.
ويرى الشيخ الفزازي أنه من شأن هذه السلوكيات أن تُنفر الطلبة والأطفال وتكرههم في القرآن وفي المشايخ، قائلا: “الأمر قد يسير على المعكوس حتى وإن حفظ الطفل القرآن عن ظهر قلب، فإن تلك الذكريات المؤلمة تبقى راسخة في ذهنه دوما”، واعتبر أن “الأئمة يجهلون أن تعنيف الأطفال ليس أسلوب رحمة وليس سلوكا بشريا ولا إنسانيا”.
وأضاف الشيخ الفزازي: “ربما يكون ذلك محبة منه في ترسيخ القرآن وتحفيظه، وقد تكون الغاية نبيلة ولكن الأسلوب غير شرعي وهمجي، فالفقيه هو ضحية أيضا للتربية والأسلوب الذي حفظ به القرآن، كما أنه يجهل القانون الوضعي الذي يحرم هذه الممارسات، خاصة أن التلاميذ الآن لديهم هواتف ويصورون كل شيء”.
في المملكة العربية السعودية
أما في المملكة العربية السعودية فإن جمعيات القرآن الكريم لديها تعليمات مشدّدة تمنع استخدام الضرب أو الوسائل غير التربوية في حلقات القرآن الكريم، وتشجع على استخدام جوانب الترغيب والتوجيه وعمل الحوافز لدعم المسيرتين التعليمية والتربوية.
التجربة الموريتانية
اهتم الموريتانيون كغيرهم من المسلمين بتعليم القرآن الكريم وتحفيظه لأبنائهم وهذه مسألة محدودة لكن الخطأ الذي وقعوا فيه أو لنقل الجناية هي السماح لمعلمي القرآن بضرب الأطفال دون حدود ومن غير مراعاة الضوابط الشرعية، هذا إذا سلمنا أصلا بجواز الضرب على حفظ القرآن، مع أنه لا توجد نصوص صريحة تجيز ذلك بل العكس هو الصحيح فالنصوص الشرعية التي تنهى عن التعذيب والعنف بأشكالها المختلفة كثيرة.
إن ما يمارسه بعض أساتذة القرآن الكريم عندنا هو نوع من انواع التعذيب والظلم والعدوان، آثم من مارسه ويخشى أن ياثم من سكت عليه ولم يستنكره او من فرط في السعي في معالجة هذه الظاهرة.
فإذا تأملنا الضوابط التي نص عليها الحديث الشريف وناقشها الفقهاء بشأن تأديب الأطفال فسنجد أن أساتذتنا ينتهكونها كلها خاصة إذا علمنا أن الأمر قد يصل حد إصابة بعض الأطفال بإعاقات دائمة في الجسم فضلا عن الأضرار النفسية التي تبقى مع الطفل طيلة حياته وتؤثر في مداركه العقلية وبنيته النفسية، وأخطر من ذلك ما قد يؤدي إليه العنف ضد الأطفال من حالات وفاة..
يتعامل بعض المدرسين مع الأطفال بشهوة الانتقام ويتلذذ بعضهم بالتعذيب فيستخدم العصي وربما الحديد والآلات الحادة ولا يميز بين ساق ولا وجه ولا بين يد وعين ولا بين قدم ورأس ولا يتورع عن العنف اللفظي الشديد ولا عن أشكال الإذلال من بصاق ومخاط وتقريع وتوبيخ وسخرية واستهزاء مع التجريد من الملابس والحرمان من الأكل والشرب وكأن الهدف هو تحطيم الطفل بدنيا وإذلاله نفسيا حتى يفقد عقله.. والنتيجة أن يصبح الطالب ناقما على كل شيء متمنيا الموت لنفسه ولأستاذه مع كره شديد لكتاب الله الكريم.
ذكر لي أحد الأبناء أنه أصبح يكره تلاوة الشيخ خليل الحصري لأنها ارتبطت عنده بوقت ضرب أستاذه له وهذا ذكرني بتجربتي الشخصية إذ ارتبطت عندي تلاوة الشيخ الحصري التي كانت تبثها الإذاعة ظهيرة الجمعة وقت الذهاب إلى "اللوح" .
إن الأساتذة الذين يمارسون التعذيب بحق الأطفال يرتكبون جنايات متعددة منها عدم مراعاة ما أجازه الشارع من طرق التأديب، كما ذكرنا، ولكن الجناية الكبرى هي حملهم الأطفال على بغض القرآن الكريم..
رام نفعا فضر من غير قصد،، ومن البر ما يكون عقوقا
إن منهج العنف الممارس بحجة تحفيظ القرآن الكريم نتائجه عكسية، فحسب تجربتي الشخصية قلما تجد أحد أبناء جيلنا من يحفظ القرآن بعد انتهاء دراسته عند الأستاذ وكأن الأطفال يجدون راحة في نسيان القرآن بعدما تعرضوا له من أشكال التعذيب.. ومن يحفظ القرآن، او بعضه، من جيلنا إنما حصل له ذلك بجهده الخاص بعد أن كبر ونضج ..
أصبح الضرب عندنا عادة استسلم لها المجتمع دون النظر في عواقبها الخطيرة بينما نجد في دول أخرى الأطفال يحفظون القرآن دون أن يضربوا بل التعامل معهم بالرفق والترغيب والتشجيع.
إن كارثة الضرب عندنا لا تراعي فوارق الذكاء بين الأطفال ولا اختلاف الفئات العمرية، فهي أشبه بعادة" لبلوح" التي كانت تستخدم لزيادة وزن المرأة بالإكراه مع ما تسببه من أمراض وأعراض..
يقتضي منهجنا في التعليم القرآني إكراه الأطفال على حفظ القرآن في سنوات معدودة لكن النتيجة كما ذكرنا هي النسيان في أيام معدودة.
بينما المنهج الأسلم هو عدم مسابقة الزمن وحفظ القرآن على فترات طويلة بأساليب الترغيب والتشويق ولعل المعدل الأمثل لحفظ القرآن هو ما بين 4- 6 سنوات أي أن يحفظ الطفل القرآن بعد أن يكون بلغ الخامسة عشر من عمره وفق جدول زمني يضمن الإجازات والراحة البدنية والنفسية المطلوبة.. كما هو الحال في دول أخرى.
أما الإكراه على الحفظ في فترة زمنية محدودة فمآله أن ينسى الطالب ما حفظه ويصبح كارها للقرآن الكريم، كما ذكرنا، وربما يتحول إلى شخصية عدوانية تحاصرها الأمراض النفسية.
يقول ابن خلدون: (من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل، وحمله على الكذب والخبث خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة وصارت له خلقا وعادة).
مقترحات
لا جدال في أهمية تعلم وحفظ القرآن الكريم وهذا ما حرص عليه المسلمون على مر التاريخ وخاصة في بلدنا، لكن الأساليب المتبعة لتعليم الأطفال القرآن الكريم وما تتميز به من عنف يصل حد التعذيب في مخالفة صريحة للنصوص الشرعية التي تحرم ما قد يسبب أضرارا بدنية أو نفسية للأطفال مع ما ثبت من أن هذه العقوبات القاسية تأتي بنتائج عكسية، كل ذلك يستدعي إعادة النظر في أسلوب تعليم القرآن الكريم ولعل المقترحات التالية تسهم في نقاش جاد للتأسيس لمراجعة المنهج الحالي بصورة جذرية عن طريق ما يعرف بالتعليم بالترفيه وهو نشاط موجه يقوم به الأفراد لتنمية سلوك الطلبة، وقدراتهم العقلية والجسدية والوجدانية، من خلال إدخال الفكاهة والطرفة في الدروس اليومية، واللعب التربوي الهادف، حيث يحقق المتعة والتسلية، واستغلال أنشطة اللعب والترفيه في اكتساب المعرفة وتقريب مبادئ التعلم للطلبة وتوسيع آفاقهم المعرفية:
- إشراف الجهات الرسمية على التعليم القرآني وإرسال بعثات إلى عدد من الدول ذات التجارب الرائدة للاستفادة منها مثل تجربة الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم في المملكة العربية السعودية.
- افتتاح شعبة خاصة في مدرسة تكوين المعلمين يوجه إليها معلمو القرآن الكريم ليتلقوا المعارف والمهارات الضرورية مثل التربية الخاصة والعامة وعلم النفس والقانون الجنائي، للتعامل المناسب مع الأطفال.. وقد اثبتت التجارب أن معلمي القرآن الذين تخرجوا في مؤسسات التعليم النظامي أكثر قدرة على التعامل الصحيح مع الأطفال.
- فرز الطلاب بعد مرحلة تعلم الأحرف وحفظ السور الأولى بناء على مستوى ذكائهم حيث يكتفى للأقل ذكاء بحفظ أجزاء محددة، إلا من اظهرا همة واجتهادا، بينما يعد برنامج خاص للأذكياء لحفظ القرآن كاملا وفق جدول زمني محدد..
- تكون الفترة الزمنية لحفظ القرآن في حدود ست سنوات تتخللها الإجازات ويكون التركيز في البرنامج على الأساليب التشجيعية من جوائز ومسابقات ورياضة ورحلات مع العناية بالمظهر اللائق في المظهر والملبس والمكان.
- أن يشمل البرنامج التعليمي التجويد وشرح المعاني الأساسية للقرآن الكريم وفق ما يناسب المرحلة العمرية للأطفال.
- ان تطرح مسألة العنف الذي يمارسه بعض الأساتذة ضد الأطفال على العلماء لإصدار فتوى حول مدى جواز أعمال الضرب والتعنيف ضد الأطفال وهل تعلم القرآن يسوغ ذلك.
- أن تصدر الدولة تعميما بمنع الضرب وكل أساليب التعنيف وتحدد عقوبات لكل من يمارس أعمال عنف ضد الأطفال كما هو الحال في عدد من الدول العربية والإسلامية وغيرها.
إن مقارنة بسيطة بين أساليب العنف المتبعة في تحفيظ القرآن وبين منهج المحضرة عندنا توضح الفرق بين نتائج المنهجين ، فطالب المحضرة، حتى لو كان صغير السن، يحفظ مثلا عشرات القصائد، وربما المئات، من الشعر الجاهلي وغيره لأنه يأتي راغبا غير خائف لأنه لن يضرب أما طالب القرآن الكريم فيحفظ القرآن في جو من الرعب وينساه بسرعة بسبب الخوف والتعامل القاسي لأساتذة القرآن.
أرجو أن لا يفهم هذا أنه تزهيد في القرآن الكريم بل العكس هو المطلوب، إنما هي دعوة لمراجعة المنهج لأخذ الدروس والعبر من تجربة تعليم القرآن بالأساليب العنيفة واتباع الوسائل التي تناسب العصر وتليق بأجيال اليوم، فما كان يصلح من أساليب التاديب لأجيال في عصور مضت قد لا يصلح لأجيال اليوم لاختلاف الظروف وتبدل الأحوال.
إن الطرق التي تحبب القرآن للأطفال أولى بكثير من الأساليب التي تبغض القرآن إليهم..
نسأل الله أن يجزي عنا خير الجزاء أساتذتنا الذين علمونا القرآن الكريم وأن يغفر لهم ويرحمهم.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين