
لم يفوت الرئيس الامريكي دونالد ترامب فرصة للتراجع عن وعود ومواقف وقرارات وتهديدات الا واستغلها على أكمل وجه وبدون ان يرف له جفن.
الرجل برهن انه لا كلمة ولا موقف ولا قرار نهائي له يمكن الركون عليه, فهو متقلب الاهواء والاجواء, بيد ان الثابت شبه الوحيد عنده على ما يبدو دعمه المطلق للكيان الصهيوني شانه شأن من سبقه في البيت الابيض.
المائة يوم التي مرت على عودة ترامب للبيت الابيض لفترة رئاسية ثانية كانت حبلى بالاحداث, ابتداءاً من التضييق على المقيمين في الولايات المتحدة من طلاب ولاجئين وعاملين وغيرهم, ومطالبته بضم كندا وغرينلاند للولايات المتحدة, والسيطرة على قناة بنما والملاحة مجاناً في قناة السويس للسفن الامريكية, وتغيير اسم خليج المكسيك, والسيطرة على قطاع غزة وتحويلها الى منتجعات سياحية (ريفيرا), وطلبه من دول خليجية باستثمار تريليونات الدولارات في الاقتصاد الامريكي, والسيطرة على نصف ثروات اوكرانيا, والتهديد بتدمير ايران اذا لم تتوصل خلال شهرين الى اتفاق مع واشنطن حول برنامجها النووي بشروط امريكية صهيونية, وفرض رسوم جمركية على الواردات الامريكية من جميع دول العالم تقريباً والتراجع عنها باستثناء الصين وما ترتب على ذلك من فوضى في الاسواق المالية العالمية وخسائر هائلة تقدر بتريليونات الدولارات تكبد الشعب الامريكي (افراد وشركات) معظمها.
يبدو ان ترامب كان يتصور ان العالم سيسارع الى الركوع تحت رجليه لتقديم فروض الولاء والطاعة وسيلبي صاغراً كل طلباته ومحققاً كل احلامه, ويصبح عدد الولايات المتحدة 52 ولاية بعد ضم كندا وجرينلاند ويرفرف العلم الامريكي على ضفاف قناة بنما وتستبيح السفن الامريكية قناة السويس جيئة وذهاباً مع كل التبجيل والاحترام بدون ان تدفع مليماً واحداً وتتحول شواطئ قطاع غزة الى منتجعات وفنادق وكازينوهات للقمار والدعارة على غرار لاس فيغاس تحت راية منظمة ترامب وكوشنر وويتكوف لتنافس مثيلاتها في كان ونيس وسانتروبيز ومونتي كارلو وغيرها في الريفيرا الفرنسية, ويتنعم المواطن الامريكي في الرفاهية والعز ورغد العيش بعد أن تتدفق على بلاده ثروات ومعادن اوكرانيا النفيسة, وبعد ان تتسابق دول الخليج على تقديم تريليونات الدولارات اليه على طبق من ذهب وهو متكئ بين الجواري والغواني على ارائك من حرير على غرار حواديث الف ليلة وليلة.
لا ادري ان كان ترامب يدرك انه لا مجال للاحلام في هذا العصر, وأن اي من هذه الهرطقات قابل للتحقيق, ولكن بالبحث قليلاً في شخصية ترامب نجد ان هذه الاستراتيجية التفاوضية ليست طارئة او وليدة نجاحه في الوصول الى البيت الابيض مرة جديدة, بل هي جزء من تركيبة شخصيته وعقيدته التجارية, فهو قد اشار بوضوح الى هذه الاستراتيجية في كتاب "فن الصفقة" الذي شارك في تأليفه الى جانب توني شوارتز ونشر عام 1987, ومن بين احدى عشر نصيحة قدمها في هذا الكتاب للراغبين في تحقيق اكبر قدر من الارباح كانت النصيحة الاولى "فكر بشكل كبير" او بالانجليزية "Think Big", وهذا ما يفسر اطلاقه تصريحات ترمي لتحقيق أهداف ضخمة بغرض اربكاك الطرف المقابل ودفعه الى مربع الدفاع وينتهي به المطاف لعرض مكاسب اقل من التي تم الاعلان عنها, وقطعاً هذه مهما كان حجمها او قيمتها تكون مكسباً وبدون مقابل تقريباً.
ومن النصائح التي أوردها ترامب في الكتاب "لا تخف من كسر القواعد والقوانين", وربما هذا ما يفسر استخفافه بالمعاهدات والتحالفات والقوانين والهيئات الدولية.
ومن النصائح ايضاً "معرفة الوقت المناسب للتراجع أوالانسحاب" وهذا ما قد يبدد الاستغراب من سرعة وسهولة تراجعه عن معظم تصريحاته ومواقفه.
لكن يبدو ان ترامب لا يستطيع ان يميز بين عالم المال والاعمال وبين عالم السياسة, نصائحه التي اشرنا الى بعضها قد تنجح في مجال عقد الصفقات التجارية بين رجال الاعمال حيث ان هناك بائع ومشتري ورابح وخاسر, وقطعاً لن تكون ناجحة في المفاوضات السياسية حيث ن الفرقاء عادة ما يمثلون حكومات وشعوب
اخر الكلام:
تصريح ترامب المفاجئ حول قناة السويس جاء مقرونا بقناة بنما (رغم انه قد اشار الى قناة بنما عدة مرات ولم يسبق له الاشارة الى قناة السويس مطلقاً), وهذا ما لفت الانتباه, والملفت اكثر توقيت هذا التصريح الذي جاء متزامناً مع حملة شعواء يشنها الكيان الصهيوني على مصر لنشرها قواتها المسلحة في سيناء ووقوفها بصلابة في وجه المخطط الصيوني الرامي الى تهجير اهل قطاع غزة من بلادهم وبيوتهم, وعلى الارجح ان تصريح ترامب بضرورة سماح مصر للسفن الامريكية بالمرور مجاناً في قناة السويس يأتي في سياق ارباك مصر ودفعها الى مربع التفاوض مما سيتيح المجال لطرح املاءات وشروط امريكية وصهيونية تلين الموقف المصري الصلب المشار اليه.
كل المؤشرات بما في ذلك ما تتناوله وسائل الاعلام الامريكية والعالمية تشير الى تصريح ترامب حول قناة السويس سيؤول الى نفس مصير تصريحات عديدة له.
عدد من القراء الاعزاء لفتوا نظري مشكورين الى طول المقالات وتمنوا اختصارها وهذا ما ساحاول القيام به من الان وصاعداً ان شاء الله.
د. سمير الددا