موريتانيا والناتو: بين تحولات الاستراتيجية الدولية وسيناريوهات المستقبل

تتسارع التطورات الجيوسياسية في منطقة الساحل الإفريقي على نحو يفرض تحديات معقدة أمام الدول الإقليمية. وضمن هذه الصورة، تبدو موريتانيا لاعبا ذا أهمية نسبية بفضل موقعها الاستراتيجي على المحيط الأطلسي واستقرارها السياسي مقارنة بجيرانها. إلا أن دورها المحتمل لم ينعكس بعد بصورة واضحة في شكل شراكات دولية كبرى أو تحالفات تمنح موريتانيا فرصة الاستفادة من التنافس القائم بين حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومنافسيه، لا سيما روسيا. ولعل التحولات التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة –منها انسحاب فرنسا من مالي وعدد من دول المنطقة وتعاظم الدور الروسي هناك– قد أثارت الاهتمام الغربي، وخاصة الأطلسي، بضرورة وجود نقاط ارتكاز بديلة في دول الساحل. 

وعلى الرغم من أن موريتانيا تنخرط إلى حد ما في آليات إقليمية لمكافحة الإرهاب وتأمين الحدود، فإنها لا تزال مترددة في الانخراط الكامل ضمن أي محور دولي، خشية المساس بسيادتها أو إثارة حفيظة جيرانها. وينطلق هذا التحليل من فرضية أن موريتانيا، إن أحسنت توظيف موقعها الجيوسياسي وثرواتها الطبيعية، قد تتحول إلى عنصرٍ محوري في أي صيغة أمنية إقليمية مقبلة، شريطة توافر رؤية داخلية واضحة تحدد كيفية التعامل مع حلف الناتو وسائر القوى المتنافسة.

 

 

أولا: الأبعاد الاستراتيجية للموقع الجغرافي الموريتاني

 

يمتد الساحل الموريتاني على ما يناهز سبعمائة كيلومتر من الواجهة الأطلسية، مما يمنح البلاد إطلالة بحرية تتيح مراقبة طرق التجارة والملاحة في الجوار الإقليمي، ويخلق صلة ربط بين الشمال الإفريقي وغربه. هذا الامتداد الجغرافي يجعل من موريتانيا بوابة تتلاقى عندها مصالح دولية عديدة، سواء تعلق الأمر بأمن الممرات البحرية، أو مراقبة تحركات الجماعات المسلحة، أو ضبط موجات الهجرة العابرة للمحيط نحو السواحل الأوروبية. 

ومع أن موريتانيا انخرطت في تفاهمات متعددة مع الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الغربية بخصوص ضبط حدودها البحرية، فإن هذه التفاهمات بقيت محدودة التأثير في مسار العلاقة مع حلف الناتو تحديدا، إذ لم تتبلور حتى الآن مبادرات تعكس إدماج موريتانيا في منظومة أمنية متكاملة. ويرى مراقبون أن موريتانيا قد تكون في وضع أقوى لو أنها انتهجت سياسة تفاوضية أعمق، تجعل مراقبة الشريط الساحلي جزءا من اتفاقات أمنية واقتصادية أشمل، بحيث يوفر لها الاستثمار في الموانئ والتقنيات البحرية فرصة لتنمية بنيتها التحتية الداخلية وتعزيز دورها كقطب إقليمي.

 

 

ثانيا: مكافحة الإرهاب بين النجاحات الأمنية والحدود القائمة

 

على الرغم من تزايد نشاط الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل، ما تزال موريتانيا تتمتع باستقرار نسبي؛ فقد نجحت منذ سنوات في احتواء تمدد الجماعات المسلحة، من خلال استراتيجية مزجت بين الحزم العسكري والحوار الديني، واستطاعت تفادي تكرار السيناريوهات الدموية التي عرفتها دول مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو. ومع ذلك، لا تنبغي المبالغة في وصف التجربة الموريتانية بأنها "نموذج راسخ"، حيث ما تزال البنية الدفاعية للبلاد محدودة في جوانبها التقنية واللوجستية، كما أن عدم وجود منظومة استخبارات متطورة يجعل نواكشوط بحاجة دائمة إلى دعم خارجي. 

وإذا كان حلف الناتو قد أظهر استعدادا للتعاون مع دول المنطقة في مجالات التكوين والتدريب ومشاركة المعلومات، فإن اندماج موريتانيا في هذا النطاق ظل متقطعا ومتأرجحا. ويعود ذلك في أحد جوانبه إلى رغبة السلطات الموريتانية في عدم الظهور وكأنها منحازة إلى طرف دولي دون آخر، فضلا عن حذرها من أي ترتيبات قد تثير حساسيات جيرانها الذين يتلقون دعما روسيا (مباشرا أو غير مباشر). وهنا تبرز إشكالية غياب رؤية وطنية طويلة الأمد ترسم حدود العلاقة مع الناتو بما يوازن بين الحفاظ على السيادة والاستفادة من الإمكانات التدريبية والتكنولوجية التي يمكن أن يقدمها الحلف.

 

 

ثالثا: أزمة المهاجرين غير النظاميين بين الضغط الداخلي والتوظيف الدبلوماسي

 

تتصاعد أزمة المهاجرين غير النظاميين في موريتانيا على نحو غير مسبوق، حيث تحولت البلاد إلى نقطة عبور محورية نحو جزر الكناري الإسبانية، مع ازدياد أعداد المهاجرين القادمين من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء وحتى من آسيا. ووفقا لتقارير حكومية ودولية، فإن نسبة الأجانب المقيمين في موريتانيا تبلغ حوالي 10% من السكان، أي ما يقارب نصف مليون نسمة، مع تسجيل مئات محاولات العبور الشهرية من السواحل الموريتانية، لا سيما في مدينة نواذيبو، باتجاه السواحل الإسبانية.

وقد أدت هذه التدفقات البشرية إلى ضغط متزايد على موارد الدولة المحدودة، خاصة في القطاعات الحيوية مثل المياه والصحة والبنية التحتية، في وقت تعاني فيه البلاد من بطالة مرتفعة بين شبابها تتجاوز 30% في بعض التقديرات. وقد خلق هذا الواقع توترا اجتماعيا محليا، في ظل الصعوبات المرتبطة بالسيطرة على الشبكات المتخصصة في تهريب البشر، التي تشير تقارير إعلامية إلى أنها تحصل على ما يصل إلى 3000 يورو عن كل شخص يتم تهريبه.

في مواجهة هذا الوضع، كثفت السلطات الموريتانية من تعاونها مع الدول الأوروبية، وخصوصا إسبانيا، عبر اتفاقيات تركز على مراقبة الحدود وتعزيز القدرات الأمنية والبحرية. وقد حصلت نواكشوط بموجب ذلك على دعم تقني ومساعدات لوجستية، غير أن هذا الدعم لا يزال محدودا ولا يرقى إلى مستوى التحديات، ما دفع الحكومة إلى المطالبة بتمويلات إضافية وتحويل هذا التعاون إلى استثمارات بنيوية تدعم استقرار المناطق المتأثرة بالعبور.

في المقابل، تستخدم موريتانيا هذا الملف كورقة دبلوماسية فعالة في علاقتها مع أوروبا، ساعية إلى ترجمة موقعها بوصفها مؤهلة لأن تصبح "حائط صد" أمام موجات الهجرة، نحو شراكة استراتيجية أوسع. ومع تزايد اهتمام حلف الناتو بالحدود الجنوبية لأوروبا، تبدو أزمة الهجرة عاملا قد يسهم في تعزيز الحضور الموريتاني ضمن ترتيبات التعاون الأمني الأوسع نطاقا، شريطة أن تبنى هذه الشراكات على أساس الاحترام المتبادل للمصالح والسيادة، وتتجنب تحميل موريتانيا أعباء لا تتناسب مع قدراتها.

 

 

رابعا: سيناريوهات العلاقة مع الناتو في ظل التمدد الروسي

 

يحمل التحول المستمر في منطقة الساحل، خصوصا بعد انسحاب فرنسا من الساحل وازدياد نفوذ روسيا عبر مجموعات شبه عسكرية، رهانات جديدة بالنسبة لكل من موريتانيا والناتو. ويمكن استشراف أربعة سيناريوهات تتباين في انعكاساتها على البلد:

 

السيناريو الأول: شراكة أمنية متقدمة

 

يقتضي هذا السيناريو انخراط موريتانيا في شراكات عسكرية واستخباراتية أوثق مع الناتو، بما يشمل تدريبات متواصلة ودعما لوجستيا وتقنيا مقابل تكثيف المساهمة في عمليات إقليمية لمكافحة الإرهاب. هذا الخيار قد يعزز القدرات الدفاعية الموريتانية، لكنه قد يخلق تحديات جيوسياسية فيما يتعلق بعلاقات موريتانيا مع دول الجوار التي تتمتع بعلاقات قوية مع روسيا.

 

السيناريو الثاني: توازن حذر بين القوى الدولية

 

وهو السيناريو الذي تستمر فيه موريتانيا بممارسة سياسة الانفتاح المحدود على الناتو، مع الإبقاء على قنوات تواصل مع روسيا والصين وبعض القوى الأخرى، بما يجنبها الانزلاق في أي محور من محاور التنافس الدولي. ويؤمن هذا السيناريو قدرا من المرونة الدبلوماسية، إلا أنه يحرم البلاد من شراكة عميقة مع أي طرف، وقد يفوت عليها فرصة حقيقية لتعزيز قدراتها.

 

السيناريو الثالث: انكفاء موريتاني حفاظا على الاستقلالية

 

يتم فيه التراجع عن أي اندماج حقيقي في ترتيبات أمنية خارجية خشية التأثير على القرار الوطني. مثل هذه الخطوة تمنح موريتانيا استقلالية ظاهرة، لكنها قد تزيد من هشاشتها أمام تزايد التهديدات في البيئة الإقليمية، فضلا عن ضياع فرص الاستثمار والتدريب التي يمكن أن تساهم في تحديث المنظومة العسكرية والأمنية.

 

السيناريو الرابع: خيار "الخط الدفاعي" لصالح الغرب

 

توافق فيه موريتانيا على لعب دور متقدم في احتواء النفوذ الروسي ومراقبة تحركاته في الساحل، مستندة إلى دعم مالي وعسكري غربي كبير. سيكون لهذا السيناريو مكاسب اقتصادية وأمنية فورية، لكن ثمنه قد يتمثل في تكريس حالة تبعية طويلة المدى وفي إثارة توترات مع الدول التي ترتبط بعلاقات وطيدة مع روسيا، ما ينعكس على استقرار المنطقة عموما.

 

خاتمة

 

يتضح من خلال استعراض المشهد الإقليمي أن موريتانيا تجد نفسها في مفترق طرق بين الإغراءات والضغوط الدولية، وأن موقعها الاستراتيجي يضعها في موضع الاهتمام من جانب حلف الناتو الساعي لتطويق النفوذ الروسي المتصاعد. بيد أن الخيارات الموريتانية في هذا الشأن ما تزال محكومة بعوامل عدة، أبرزها الرغبة في الإبقاء على درجة معقولة من الاستقلالية، والتردد في نسج تحالفات معمقة قد تنعكس سلبا على علاقاتها الإقليمية.

وعلى الرغم من أن تجربة مكافحة الإرهاب الموريتانية تقدم نموذجا ناجحا نسبيا في الساحل، فإن نقص التخطيط الاستراتيجي الشامل، وغياب البنى الدفاعية المتطورة، وقلة الاستثمارات الهيكلية، تمنع هذه الدولة من التحول إلى "قوة وازنة" تعطي لنفسها موقعا تفاوضيا يفرض احتراما دوليا أكبر. وإذا كانت موريتانيا لا ترغب في أن تكون ساحة لصراعات المحاور، فإنها مدعوة إلى صياغة خيارات واضحة لا تبقيها على هامش التقلبات، كما تتيح لها في الوقت نفسه تعزيز سيادتها وإرساء شراكات تخدم مصالحها بعيدا عن الضغوط أو الإملاءات الخارجية.

 

مركز أوداغست للدراسات الاقليميه 

اثنين, 14/04/2025 - 09:11