
تعيش منطقة الساحل هذه الأيام على وقع تصعيد غير مسبوق بين الجزائر ومالي، بعد أن اتهمت الحكومة الانتقالية في باماكو القوات الجزائرية بإسقاط طائرة مسيرة تابعة لجيشها يوم 31 مارس 2025، معتبرة الحادثة "عدوانا عسكريا صريحا" و"رعاية للإرهاب الدولي". ولم يكتف الطرف المالي باتهام الجزائر علنا، بل أعلن انسحابه من لجنة الأركان العملياتية المشتركة (CEMOC) واستدعى سفيره من الجزائر، في خطوة تعكس حجم التوتر وانهيار الثقة بين الطرفين.
أما الجزائر، فقد ردت ببيان حاد النبرة رفضت فيه ما وصفته بـ"الافتراءات الخطيرة"، وأعلنت إغلاق أجوائها أمام الطيران المالي، واستدعت بدورها السفير الجزائري في باماكو. وبين الاتهام والرد، تصاعدت الأزمة بسرعة إلى مستوى غير مسبوق، وبدأت تأخذ طابعا استراتيجيا يتجاوز مجرد حادثة تقنية إلى لحظة انفجار مكتمل التكوين، تخللتها مواقف تضامنية صريحة من دول كونفدرالية الساحل، التي أعلنت دعمها لمالي وقررت استدعاء سفرائها من الجزائر، في ما يبدو أنه تكريس لتشكل محور جديد داخل المنطقة.
الأزمة في سياقها العميق: من الحياد الحذر إلى صراع الإرادات
لم تكن العلاقات بين الجزائر ومالي تسير على نسق طبيعي في السنوات الأخيرة، لكن الطرفين كانا يحرصان على ضبط النفس وعدم تحويل الخلافات البنيوية إلى قطيعة معلنة. فبعد الانقلابات العسكرية المتتالية في مالي، وتغير المزاج السياسي في باماكو، بدأت القيادة الجديدة تتبنى خطابا سياديا رافضا للوصاية الخارجية، متزامنا مع انسحاب تدريجي من التحالفات الإقليمية والدولية، بدءا من القوة الفرنسية "برخان"، مرورا بمجموعة دول الساحل الخمس، وصولا إلى التنكر مؤخرا للأطر الأمنية التي كانت الجزائر أحد مهندسيها.
وبالتوازي مع هذا الانكفاء، عمقت السلطات الانتقالية في مالي تحالفها الاستراتيجي مع جيرانها الانقلابيين في كل من بوركينا فاسو والنيجر وخصوصا مع روسيا الاتحادية، مما وفر لها دعما أمنيا ولوجستيا مباشرا من مجموعة فاغنر، وهو ما فتح الباب لتوترات صامتة مع الجزائر، التي ظلت تنظر بريبة إلى تصاعد الحضور الروسي في منطقة تعتبرها امتدادا طبيعيا لأمنها الوطني.
ومن هذا المنطلق لم تكن الحادثة الأخيرة، رغم رمزيتها العسكرية، إلا تتويجا لتراكم سياسي وأمني طويل، بدأ يخرج إلى العلن بعبارات اتهامية متبادلة، وإجراءات دبلوماسية ذات طابع عقابي، حيث كسر الطرفان حاجز المجاملة، وانخرطا في معركة سرديات وسياسات ومواقع، يسعى كل طرف من خلالها إلى تثبيت نفوذه على حساب الآخر، سواء عبر إعادة تعريف مفهوم "العدو"، أو من خلال محاولة تشكيل تحالفات موازية تعيد هندسة ميزان القوى في الإقليم.
تفكك منظومة الساحل: نهاية وساطة الجزائر وبداية اصطفافات جديدة
يمكن النظر إلى الأزمة الحالية باعتبارها مؤشرا على نهاية محتملة للدور الوساطي التاريخي الذي لعبته الجزائر في ملفات الساحل، وعلى رأسها أزمة الطوارق في الشمال المالي؛ ذلك أن الدولة التي كانت راعية لاتفاق السلام الموقع عام 2015، وضامنة لتوازن هش بين الدولة المالية والحركات الطوارقية المسلحة، تجد نفسها اليوم في موقع الطرف المستهدف بسيل من الاتهامات ليس فقط من مالي، بل من مجمل دول تحالف الساحل الجديد، التي اختارت التكتل خلف مالي واستدعاء سفرائها، في موقف لم يسبق أن واجهته الجزائر من قبل في مجالها الحيوي الجنوبي.
في الواقع، فإن هذا القدر من الجرأة الذي أبدته مالي في توجيه اتهامات حادة ومباشرة إلى الجزائر، واتخاذها لمواقف توصف بالحدية في سياق إقليمي بالغ الحساسية، لا يمكن عزله عن تحول أعمق في موازين التأثير داخل فضاء الساحل. كما أن السرعة اللافتة التي أبدت بها كل من النيجر وبوركينا فاسو تضامنا سياسيا ودبلوماسيا كاملا مع باماكو، لا تجدر قراءتها فقط كمجرد اصطفاف لحظي، بل باعتبارها تعكس ما هو أبعد من ذلك: وهو أن مكانة الجزائر كفاعل حصري في صياغة التوافقات الأمنية أو مظلة إقليمية تلقائية لأي حوار سياسي أو تسوية داخلية، قد أصبح يواجه تحديات جدية.
ولعل من أخطر التداعيات المحتملة لهذا التوتر المتصاعد بين مالي والجزائر، أنه قد يدفع الجزائر إلى إعادة النظر في حيادها النسبي تجاه النزاع المزمن في شمال مالي، وخصوصا في علاقتها مع الحركات الأزوادية، سواء من خلال الدعم غير المباشر، أو عبر إعادة تفعيل قنواتها التقليدية في الإقليم. وفي حال قررت الجزائر استخدام هذه الورقة، فإن باماكو ستجد نفسها أمام جبهة جديدة بالغة التعقيد، قد تجهض التقدم العسكري الذي حققته مؤخرا في الشمال، وتعيد الصراع في الإقليم إلى نقطة الصفر.
والأسوأ من ذلك، أن مثل هذا الانزلاق قد يمنح أطرافا خارجية ـ دولية أو غير نظامية ـ فرصة التغلغل من جديد، مستفيدة من تفتت الجبهة الداخلية المالية، وتصاعد الشعور بالمظلومية لدى مكونات سكانية لطالما اعتبرت نفسها مهمشة من المركز. وبهذا المعنى، فإن الدخول في مواجهة مفتوحة أو مستترة مع الجزائر لا يمثل فقط خطرا دبلوماسيا أو اقتصاديا على مالي، بل تهديدا مباشرا لوحدة أراضيها، وتماسك نسيجها الوطني الهش.
موريتانيا بين الحياد الحذر وفرصة بناء نفوذ دبلوماسي جديد
أمام هذا المشهد المتقلب، تجد موريتانيا نفسها أمام تحدي مزدوج: فهي من جهة معنية مباشرة بما يجري على حدودها الشرقية والشمالية، نظرا لحساسية التوازن الأمني في مناطقها الحدودية، وهي أيضا متضررة محتملة من انهيار مشاريع التعاون الإقليمي التي كانت جزءا منها. ومن جهة أخرى، تمتلك نواكشوط مقومات موضوعية تمكنها من لعب دور الوسيط النزيه والفاعل، نظرا لعلاقاتها المتوازنة مع الطرفين، وابتعادها عن سياسات الاصطفاف الإعلامي والسياسي التي تورطت فيها أطراف إقليمية أخرى.
لكن الدور الموريتاني، إذا ما أُريد له أن يكون مؤثرا، لا يمكن أن يظل حبيس سياسة الانتظار ورد الفعل، ذلك أن الأزمة الحالية تمثل لحظة مناسبة لصياغة تدخل استباقي، يجمع بين المصلحة الوطنية المباشرة (المرتبطة بأمن الحدود وبنية النقل الإقليمي) وبين الطموح لبناء موقع رمزي وسياسي يرسخ موريتانيا كوسيط موثوق، في زمن تتساقط فيه الوساطات القديمة.
ويمكن للتدخل الموريتاني أن يأخذ شكل مبادرة ثلاثية غير معلنة، تضم خبراء أمنيين ودبلوماسيين من الجزائر ومالي وموريتانيا، تعمل على إعادة بناء جسور الثقة، واقتراح صيغ تنسيق أمني جديدة لا تلغي الهياكل القديمة، لكنها تعيد تأطيرها بما ينسجم مع التوازنات السياسية الجديدة.
ومهما يكن، فإن ما تشهده المنطقة اليوم ليس مجرد أزمة بين بلدين جارين، بل لحظة انكشاف استراتيجي كامل لمنظومة الساحل القديمة، التي كانت قائمة على ثنائية التنسيق الفرنسي/الجزائري، والاعتماد على منصات متعددة الأطراف.
وفي المقابل، تتبلور أمامنا اليوم منظومة جديدة، أكثر حدة وأقل قدرة على استيعاب الخلافات، لكنها أكثر جرأة في فرض تصوراتها.
وفي خضم هذا التحول، تبدو موريتانيا أمام مفترق طرق: فإما أن تتحرك بذكاء لتعزيز موقعها كوسيط متزن وفاعل، أو أن تكتفي بدور المراقب في إقليم يعاد رسم ملامحه تحت ضغط الطائرات المسيرة وخطابات القطيعة.
مركز أودغست للدراسات الإقليمية
06 أبريل 2025