
في الٱونة الأخيرة اهتم الرأي العام -متأخرا- كعادته بمخاطر الهجرة، على غرار شعوب كثيرة استشعرت تهديد وجودها من قبل أمواج بشرية لا تمت لثقافتها بصلة، ولعل اهتمام الباحثين بهذه الظاهرة يعكس ذلك القلق المجتمعي المتزايد من تهديد هُوايته الثقافية في الصميم، ومن أبرز ما قرأت في هذا الصدد، كتاب: (الترابط بين الأمن والهجرة والتنمية في منطقة الساحل: "مراجعة واقعية") لمؤلفيه لوكا راينيري وأليساندرو روسي، اللذان تناولا بشيء من التحليل العميق العلاقة المعقدة بين الأمن والهجرة والتنمية في منطقة الساحل، وكذا كتاب: (مناخ القلق في الساحل: "الهجرة في أوقات كراهية الأجانب")، من تأليف جيسي ريبو وبابا فاي، المهم في هذا الكتاب هو التركيز على ظاهرة الكراهية للأجانب، التي بدأت في أوروبا في أوساط اليمين المتطرف، لتنتقل إلى المغرب العربي، كما شهدنا في ليبيا وتونس، وأخيراً في موريتانيا التي أثار تعاملها مع المهاجرين غير النظاميين جدلاً واسعاً في الغرب الإفريقي.
ربما تختلف موريتانيا من حيث خطر الهجرة عليها عن باقي البلدان نظراً لتركبتها الديموغرافية الحساسة اتجاه المكون الإفريقي الذي يَنظر بشيء من الريبة، التي تصل حد التٱمر ضده، على كل ماله علاقة بالتعامل مع الأفارقة، هذا التصور شكل هاجساً لدى أصحاب القرار في البلد لدرجة التغاضي عن الهجرة غير الشرعية، يُضاف إلى ذلك طبيعة المجتمع البدوي العاجزة، بطبعها، عن فهم التحولات الجيو سياسية وتأثير التغير الديمغرافي عليها، والتعامل بمنطق الترحال مع المخاطر الجسيمة.
وليس الانتقال من أحياء نواكشوط الجنوبية نحو مناطقه الشمالية سوى جزء من حلول عاجزة، يقدمها المجتمع للتعامل مع هذا المد التي تغذيه عشرات الملايين القادمة من الساحل الإفريقي ومن ٱسيا، بحثاً عن الوصول لأوروبا عبر الخاصرة الرخوة بحسب شبكات التهريب.
أدت مقاربة السلطة والمجتمع للتعامل مع هذه المخاطر إلى انتشارها، حيث أصبحت موريتانيا أهم منطقة مريحة للعبور بالنظر إلى الحرية التي يتمتع بها المهاجرون الذين انخرطوا بسهولة في منظمات إجرامية لترويج المخدرات وممارسة الدعارة، فضلا عن الحِرابة بأشكالها المختلفة..
الخطير في الأمر أن هذه الكتل الديموغرافية التي تشتغل خارج القانون، والتي تُقارب ضعف السكان تقريباً، أصبحت تُستغل في السياسة المحلية، سواءً من خلال التجنيس بهدف الحصول على الأصوات، أو الاستغلال في إثارة الفوضى في المناسبات الانتخابية خاصة الرئاسية منها.
بيد أن تساهل السلطة مع هذه الثنائية ضاعف من حجم المخاطر خاصة وأنما يُسميه البعض "بالنسخ الرديئة من المشرعين" الذين تسللوا إلى البرلمان عبر ثغرات سياسية وأمنية، جعل من المناصب الانتخابية خطرا مكملاً للأخطار المترتبة عن الهجرة غير الشرعية.
إن تحول البرلمانيين من منافحين عن القضايا الوطنية الكبرى، وبأساليب جامعة وفعالة، إلى دعاة للتفرقة من خلال إثارة النعرات، بين مكونات الشعب الواحد، ساهم بشكل جلي في تغذية النهج الفوضي الذي يخدم شبكات الاتجار بالبشر، وبشكل يتطلب من أصحاب القرار وضع معايير صارمة للولوج إلى البرلمان عبر شبكة نقاط صارمة تتطلب الكفاءة العلمية والمهنية والوطنية.
فالمتتبع للمخرجات الانتخابية في السنوات الأخيرة، يجد أنها سلكت مسلكاً غوغائيا في خطابها الإعلامي يعتمد على التفاهة كأهم معيار في سياسته التحريرية، والظاهر أن ثمة توزيعاً للأدوار يقسمه المهتمون إلى ثلاثة أصناف تعمل كلها ضد الوحدة الوطنية وعلى زعزة الأمن، وترسيخ الانقسام الداخلي.
فمعظم نواب الأغلبية وصلوا لمناصبهم عبر عملية معقدة تستخدم فيها الرشوة وربما التجنيس، بحسب وسائل إعلام محلية، مستخدمين تقنيات البزنس التي لاتقيم وزنا لمفاهيم مثل الحرص على المصلحة الوطنية أولا.
أما الصنف الثاني فتمثله مجموعة من المتثاقفين الذي يكررون الخطاب التحريض ذاته، رافعين شعار المظلومية، والشرائحية في خطاب معاد وبصراحة، تصل حد الوقاحة، لمؤسسات الدولة واستمراريتها، همهم الوحيد أن يحافظوا على امتيازاتهم الخاصة، مع عجزهم التام عن تقديم خطاب بديل، إذا ما استثنينا مناشدتهم لنظرائهم في أوروبا بالتدخل في الشأن الداخلي لموريتانيا، للحفاظ على مكاسبهم بأساليب تجاوزت مقاسات الخيانة العظمى.
لايبدو الصنف الثالث خارجاً عن السياق نفسه، وإن بأساليب فجة، تسعى إلى المساس برموز الدولة، من خلال الإهانة المتعمدة لقوات الأمن أثناء ممارستهم لعملهم.
الظاهر أن هنالك تناقساً يثير قلقاً متزايداً حول التناغم الواضح بين المخاطر التي تشكلها الهجرة وخطر التسيب في المناصب الانتخابية، فحين يكون منح الامتيازات على أساس المساس بأمن الدولة واستقرارها، نكون بحاجة لرجال مخلصين للذود عن هُوية وطن أصبح خطر المناصب الانتخابية، أكثر تهديدا له من المخاطر المترتبة على هجرات مئات الٱلاف من أصحاب السوابق الحالمين بوطن بديل.
أمم ولد عبد الله