
استمرت الحضارة العربية الإسلامية عدة قرون في الأندلس حيث مثلت لبنات أساسية ومحطات رئيسة في البناء الحضاري الإنساني، ، لكنها كأي حضارة بشرية تهاوت وانكسرت بفعل عوامل داخلية وخارجية..
ولعل أبرز العوامل الذاتية هو سلوك أمراء الطوائف واشتغالهم بالمصالح الشخصية على حساب الرسالة العظيمة فوجد الأعداء فرصتهم لينقضوا على أهل الأندلس إبادة وتشريدا وتهجيرا أو تنصيرا بالإكراه..
ارسل الأندلسيون استغاثات إلى بلاد المغرب وإلى الدولة العثمانية وإلى المماليك في مصر لكن لم تصلهم اي نجدة..
وحسب بعض المصادر التاريخية فقد كان أهل المغرب يعيشون في اضطرابات سياسية اقعدتهم عن نجدة الأندلس أما المماليك فربما حاولوا لكنهم انشغلوا بصراعات أخرى أما الدولة العثمانية فلم تستجب أيضا حسبما تذكره بعض المصادر التاريخية.
لقد كانت الرسالة التي ارسلها أهل الأندلس للسلطان العثماني با يزيد الثاني مؤثرة:
سلام عليكم من عبيد تخلفوا**بأندلس بالغرب في أرض غربة
أحاط بهم بحرٌ من الردم زاخر**وبحرٌ عميق ذو ظلام ولجة
سلام عليكم من عبيد أصابهم**مصاب عظيم يا لها من مصيبة
سلام عليكم من شيوخ تمزقت**شيوخهم بالنتف من بعد عزة
سلام عليكم من وجوه تكشفت**على جملة الأعلاج من بعدة سترة
سلام عليكم من بنات عوائق***يسوقهم اللباط قهراً لخلوة
سلام عليكم من عجائز أكرهت**على أكل خنزير ولحم جيفة
بعد هذه المقدمة المؤلمة بدأوا في شرح أحوالهم مع المزيد من الاستعطاف لعل السلطان يهتم بامرهم ويدعمهم في محنتهم:
فها نحن يا مولاي نشكو إليكم**فهذا الذي نلناه من شر فرقة
عسى ديننا يبقى لنا وصلاتنا**كما عاهدونا قبل نقض العزيمة
وإلا فيجلونا جميعاً عن أرضهم**بأموالنا للعرب دار الأحبة
فإجلاؤنا خير لنا من مقامنا**على الكفر في عز على غير ملة
فهذا الذي نرجوه من عز جاهكم**ومن عندكم تقضى لنا كل حاجة
ومن عندكم نرجو زوال كروبنا**وما نالنا من سوء حال وذلة
فأنتم بحمد الله خير ملوكنا**وعزتكم تعلو على كل عزة
فنسأل مولانا دوام حياتكم**بملك وعز في سرور ونعمة
وتهدين أوطان ونصر على العدا**وكثرة أجناد ومال وثروة
وثم سلام الله قلته ورحمة**عليكم مدى الأيام في كل ساعة
ثم شرحوا بعد ذلك أحوال بعض مدن الأندلس بتصوير مؤلم :
فسل وحرا عن أهلها كيف أصبحوا**أسارى وقتلى تحت ذل ومهنة
وسل بلفيقاً عن قضية أمرها**لقد مزقوا بالسيف من بعد حسرة
وضيافة بالسيف مزق أهلها**كذا فعلوا أيضاً بأهل البشرة
وأندرش بالنار أحرق أهلها**بجامعهم صاروا جميعاً كفحمة.
كانت معاقل الأندلسيين تتساقط واحدة تلو الأخرى في الفترة ما بين 1490 م- 1526 م ولم تأتهم النجدة فسقطت جوهرة الحضارة العربية الإسلامية في تلك البلاد.
فما أشبه هذه الصور المؤلمة بما نشاهده اليوم في غزة وفي فلسطين عموما.
التاريخ يعيد نفسه
تقاعس المسلمون عن نجدة أهل الأندلس ونصرتهم تماما كما هو الحال اليوم مع أهل غزة وأهل فلسطين عموما.
ومع تشابه الحالتين من حيث تكالب الأعداء وخذلان بعض ذوي القربى وظلمهم
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند
إلا انه لا يمكن اغفال بعض الفروق الجوهرية بين الحالتين:
- الأندلس تقع بعيدا عن مركز البلاد العربية الإسلامية وإن كانت هي في حد ذاتها تمثل مركزا لثقلها العلمي والحضاري، بينما فلسطين، وغزة تحديدا، تقع في مركز العالم العربي والإسلامي واكثر من ذلك ففيها مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم .
- الأندلس يفصلها البحر عن باقي اقطار المسلمين ما يمثل عائقا كبيرا أمام وصول النجدة في تلك الحقبة بينما غزة ملتصقة جغرافيا بحدود برية مع أكبر دولة عربية وهي حدود وهمية.
- سقطت الأندلس في حقبة زمنية لا توجد فيها ثورة التكنلوجيا والاتصالات والمواصلات التي نعيشها اليوم.
- كان إرسال رسالة من الأندلس إلى باقي اقطار المسلمين يستغرق أسابيع وربما شهورا أما اليوم فإن كارثة غزة تنقل مباشرة على الهواء بالصوت والصورة فلا يحتاج أهل غزة إلى طلب إغاثة لأن الصورة أبلغ من اي كتابة وأي كلام ومع ذلك فقد استغاثوا.
- كانت الحروب في زمن سقوط الأندلس تعتمد على وسائل أقل فتكا أما وسائل الحروب اليوم فهي أكثر تدميرا وفتكا فبضغطة زر واحدة يمكن تدمير مدينة باكملها في بضع دقائق ومن مسافات بعيدة جدا.
- كانت مساحة الأندلس شاسعة نسبيا مقارنة بمساحة قطاع غزة التي لا يتجاوز طولها في أقصى الأحوال 15 كلم.
كيف يمكن أن يتصور الإنسان في القرن الحادي والعشرين أن تقلع أكثر من 100 طائرة حربية أمريكية من أحدث ما وصل إليه العقل البشري، في عملية واحدة، ليس لمواجهة جيش دولة عظمى ولا حتى صغرى بل لتمزيق أجساد الأطفال والنساء والعجزة وهم نيام في الخيام بعد أن دمرت بيوتهم..
وكيف نفهم أن نسمع شيوخا يدعون الانتساب للدعوة مثل الشيخ محمد حسين يعقوب الذي سخر من أهل غزة واصفا اسلحتهم بأنها "لا تخرم جدارا" واتهمهم ظلما وعدوانا بأنهم هم الذين خرقوا الهدنة الأخيرة.. والشيخ عثمان خميس الذي شمت بالمقاومة وشكك في عقيدة أهل غزة وحملهم هو واضرابه من "الدعاة" المتصهينين وزر وحشية العدو وآلة بطشه؟
ويكفي عثمان الخميس من السقوط فرح الصحفي الصهيوني إيدي كوهين بكلامه وما سطره من ثناء عليه، وإذا لم يتحسر على فرحة الصهاينة بكلامه فكان عليه أن يبكي دما عندما وصلته رسائل من أهل غزة يعبرون فيها عن المهم من كلامه..
لو كان عثمان خميس داعية صادقا لتامل فيما قاله أحد الشباب الذين ردوا على كلامه : ماذا بينك وبين الله حتى تدعو عليك أمهات الشهداء في غزة في أول أيام رمضان؟..
اذا كان هذا كلام وأسلوب من يدعون الانتساب للدعوة فلا لوم على بعض الكتاب والاعلاميين من المتصهينين العرب الذين سخروا اقلامهم والسنتهم لجلد أهل غزة وتثبيطهم والشماتة بهم..
لم تجد الأندلس من ينصرها وهي بعيدة وابيدت غزة ولم تجد ناصرا وهي قريبة بل في قلب بلاد العرب والمسلمين وهي في أكناف مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم.
فما أشبه الليلة بالبارحة، وإن كان وضع غزة أصعب بسبب الفروق التي ذكرت آنفا.
لمثل هذا يذوب القلب من كمد
إن كان في القلب إسلام وإيمان
الهادي بن محمد المختار النحوي
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين