التوريث والمحسوبية في موريتانيا: عوائق التنمية ومأزق العدالة الاجتماعية

لا يمكن الحديث عن نهضة تنموية حقيقية في موريتانيا دون التطرق إلى إحدى أبرز المعضلات التي تعيق تقدمها: التوريث والمحسوبية. هذان العاملان لا يفرضان فقط قيودًا خانقة على الحراك الاجتماعي، بل يشكلان عقبة كبرى أمام أي محاولة جادة لإرساء العدالة الاقتصادية وإعادة توزيع الفرص بين مختلف فئات المجتمع.

 

توريث المناصب.. احتكار الفرص وغياب الكفاءة

 

في ظل استحواذ نخب بعينها على مفاصل الدولة، أصبح الوصول إلى مراكز القرار في موريتانيا حكرًا على عائلات محددة، تتوارث النفوذ كما لو كان إرثًا عائليًا لا يجوز الخروج عنه. فتجد أن المناصب العليا، سواء في السياسة أو الاقتصاد، لا تُمنح بناءً على الكفاءة والاستحقاق، بل تُوزع وفق اعتبارات الولاء والانتماء العائلي أو القبلي. هذه الديناميكية تعيق أي تغيير حقيقي، حيث يتم إعادة إنتاج نفس الفئات الحاكمة، مما يحدّ من فرص الصعود الاجتماعي للشباب والكفاءات التي قد تكون أكثر قدرة على الإسهام في تنمية البلاد.

 

المحسوبية.. تكريس التفاوت وتدمير الثقة بالمؤسسات

 

أما المحسوبية، فهي الوجه الآخر لهذه الأزمة، إذ تحولت إلى قاعدة غير مكتوبة تتحكم في توزيع الامتيازات، سواء في التوظيف أو الاستثمار أو حتى في الحصول على الخدمات العامة. في ظل هذه الثقافة، يتم إقصاء أصحاب الكفاءة لمصلحة من يملكون العلاقات والنفوذ، وهو ما يؤدي إلى انعدام تكافؤ الفرص، وتثبيط عزيمة الطاقات الشابة، وتعزيز الشعور بالغبن الاجتماعي.

 

المحسوبية ليست مجرد انحراف إداري، بل هي آلية تُكرّس التفاوت الطبقي، حيث تظل الثروة محصورة في أيدي قلة، بينما يعاني الشباب من البطالة وانعدام الفرص. هذا الوضع يدفع الكثير منهم إما إلى البحث عن الهجرة كحل وحيد، أو إلى الانزلاق في مسارات غير آمنة كالتطرف أو الجريمة، في ظل انسداد الأفق الداخلي.

 

كيف تعيق هذه الظواهر التنمية؟

 

لا يمكن لأي اقتصاد وطني أن ينهض حين تكون المناصب امتيازًا وراثيًا والثروة محتكرة. فالتنمية الحقيقية تقوم على تحفيز الإبداع، ودعم روح المبادرة، وإعطاء الفرص للجميع دون تمييز. حين يصبح الولاء أهم من الكفاءة، تنهار مؤسسات الدولة، ويتعطل الاقتصاد، وتتحول السياسات العامة إلى أدوات لخدمة فئة بعينها بدل أن تكون وسيلة للنهوض بالمجتمع ككل.

 

ما الحل؟.. رؤية نحو مستقبل أكثر عدالة

 

إن الخروج من هذه الدوامة يتطلب إصلاحًا جذريًا على مستويات متعددة:

 

1. إعادة هيكلة النظام السياسي والاقتصادي بحيث تُتاح الفرص بناءً على الجدارة والاستحقاق، وليس وفق الانتماءات العائلية أو القبلية.

 

2. تشجيع ريادة الأعمال ودعم الشباب بمشاريع فعلية بعيدًا عن الاحتكار والامتيازات الموروثة.

 

3. فتح المجال أمام الطاقات الشابة في مواقع القرار، عبر إصلاحات سياسية تضمن تجديد النخب وتعزيز الديمقراطية الحقيقية.

 

4. إصلاح المنظومة التعليمية بحيث تتلاءم مع حاجات السوق، وتوفر للشباب أدوات فعلية لدخول عالم العمل والتطور المهني.

 

5. محاربة الفساد الإداري عبر تطبيق قوانين شفافة تحدّ من تأثير المحسوبية، وتضمن تكافؤ الفرص في التوظيف والاستثمار.

 

موريتانيا أمام مفترق طرق

 

إما أن تُبنى دولة حديثة قائمة على العدالة وتكافؤ الفرص، أو يستمر الوضع على ما هو عليه، بكل ما يحمله من مخاطر اجتماعية واقتصادية. المستقبل لا يُصنع بالمحاباة، ولا تُبنى الأوطان بتكرار أخطاء الماضي. إنما تتقدم الدول حين تُعطى الفرصة لكل فرد ليحقق ذاته، ويساهم في بناء مجتمعه، دون أن يكون رهينة لنظام التوريث والمحسوبية.

 

موريتانيا بحاجة إلى رؤية جديدة، تُعيد الأمل إلى شبابها، وتفتح الباب أمام كفاءاتها، لتكون التنمية للجميع، لا لفئة دون أخرى.

 

محمد عبد الله محيي الدين 

اقتصادي وإطار بوزارة المالية

خميس, 20/03/2025 - 12:50