
ينتظر الموريتانيون شهر رمضان، كل عام، لخوض رحلتهم مع العبادة وتقفّي أثر الأعمال الصالحة، رامين بذلك إلى قطف الحسنات ورضوان الله، فلهذا الشهر طابعه الخاص وعاداته وتقاليده المميزة، والمائدة جزء أصيل من هذا الاختلاف عن باقي شهور السنة.
غير أنّ المائدة الموريتانية الرمضانية شهدت، في السنوات الأخيرة، طفرةً نتجت عنها زيادة تنوّع الأصناف، كمّاً وكيفاً، بعد أن تأثّرت مثل باقي مناحي الحياة في البلاد بروافد عديدة، منها المطابخ المغاربية والمشرقية.
هذا التنوّع ترافقه العديد من التساؤلات عن مدى مناسبة هذه الأصناف الجديدة من الناحية الصحية، إذ عادةً ما ارتبطت الأطباق التقليدية بظروف الحياة في البلد الصحراوي في معظمه، وهو ما نناقشه في هذا التقرير.
من "المذق" إلى "البطبوط"
في الماضي، كانت المائدة الرمضانية الموريتانية أشبه بلوحة فنية بسيطة، تتزيّن بألوان النقاء والروحانية. كان "المذق" أو "الزريك" أو "الشنين"، ذلك الشراب المنعش، نجم المائدة الرمضانية، إذ يروي ظمأ الصائمين بنكهته الحامضة الحلوة، وهو عبارة عن لبن رائب ممزوج بالماء يضاف إليه السكر، وقد يكون خاثراً أو خفيفاً بحسب الرغبة. ويُعدّ أيضاً بخلط اللبن غير الرائب مع الماء، يرافقه التمر أو البلح كحلوى طبيعية.
وأيضاً، هناك "النشا" أو "السخينة"، الحساء المغذّي الذي يدفئ الأجساد بعد يوم صيام طويل. و"النشا" هو حساء مصنوع من الذرة "الدخن" أو الذرة البيضاء أو الحِنطة أو القمح أو الشعير، ويُشرب "سادة" أو بإضافة الحليب. وكانت ولا تزال كؤوس الشاي الثلاثة، طقساً مقدّساً، تتخلّلها لحظات من التأمّل والسكينة.
بعد ذلك، يأتي "أطاجين" اللحم، سيد المائدة، ويكون تارةً باللحم الطري، وتارةً أخرى بـ"التيشطار" و"الودك". و"التيشطار" هو ذلك اللحم المجفّف الذي يحمل عبق الصحراء، ويُجفّف عن طريق وضعه على حبل وتركه أياماً حتى يجفّ تماماً، ثم يوضع في وعاء حافظ من جلد، وقد يُطحن فيصبح قديداً، ويكون جاهزاً للاستعمال، ويقدم "وَدك" (زيت) سنام الإبل مع "التيشطار" في الغالب، مع أطباق أخرى بالطبع.
وقد تنوّع "أطاجين" مع الزمن، فاليوم هناك "أطاجين الدجاج" و"أطاجين السمك"، ووجبة "بنافة" الشهيرة، وهي أطاجين من اللحم والبطاطا والبصل، وتقدّم "بنافة" مع الخبز الفرنسي الباغيت، أو وجبة "الفلكة"، وهي أطاجين من لحم فقار الإبل خاصةً، تضاف إليه حبّات من البصل والقليل من الملح، ويُطبخ من دون ماء في الغالب، لأنه سريع النضج، ويقدّم مع الخبز الفرنسي.
وبعد "أطاجين"، يأتي الدور على وجبة الكسكس المحلي، ويكون الكسكس مع اللحم والخضروات، أو وجبة الأرز بالطريقة المحلية، على اللحم والخضروات أو الدجاج أو السمك.
انفتاح على المطابخ الأخرى
السنوات الأخيرة شهدت انفتاح هذه المائدة على تنوّع أكبر، حيث تسلّلت إليها حلويات ومعجّنات وبعض المحاشي، منها المغاربي ومنها المشرقي ومنها ما هو غير ذلك، مثل "البطبوط" و"السمبوسك" والفطائر وصينية البطاطس والكريب وخلية النحل و"الكروكيت" و"الشباكية"، برغم أنّ الأخيرة كانت سابقةً على الأخريات.
وكذلك، أخذت شوربة "الحريرة" المغربية مكانها على المائدة الرمضانية الموريتانية برغم حضورها قبل طفرة المحاشي والحلويات، لكنها ترسّخت أكثر، هي وشوربة الخضروات واللحم المعروفة محلياً بـ"السوب". وتبعاً لذلك، أصبحت تُحضّر العصائر المتنوّعة في الإفطار الموريتاني، مع الاحتفاظ بالمشروبات التقليدية، ومن ذلك مشروب العنّاب أو "الكركديه"، المعروف محلياً بـ"بيصام"، ومشروب "تجمخت" الذي يُصنع من ثمرة شجرة "الباوباب".
ربما طرأ هذا التغيير نتيجة الانفتاح على الشعوب العربية والإفريقية الأخرى عبر القنوات الفضائية، أو شبكة الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي وقنوات اليوتيوب، حيث أصبحت المائدة الرمضانية ميداناً خصباً للتأثر بما يُعرض على هذه الوسائط عربياً وعالمياً.
وفي البداية، كانت هذه المعجنات والحلويات والمحاشي والعصائر تُستجلب من المطاعم والمخابر والمحال المتخصصة التي يملكها بعض أعضاء الجاليات المغاربية والشامية في موريتانيا. لكن الموريتانيين قاموا لاحقاً بإعدادها في منازلهم، وأصبحوا يفضّلون ذلك، وصارت اليوم جزءاً من الحالة الاستعراضية على شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يتمّ اليوم التباهي بالفطور على تطبيقات مثل "سناب شات".