نعم للحوار المرتقب

ليس "الحوار" مجرد أداة لحل الخلافات، بل هو ركيزة أساسية لترسيخ قيم الديمقراطية ومشاركة الجميع الفاعلة في صنع القرار.

 

في الدول الساعية بجد نحو الاستقرار والتنمية، لا بد أن تتبني النخب خيار "الحوار" وتتخذه نهجا للتصالح ووسيلة لتحقيق الأمن أولا، ورعاية المصالح العليا ثانيا، وفتح الآفاقً الواسعة لتحقيق المزيد من دعم وتعزيز "التعايش السلمي" ثالثا، ولترسيخ المبادئ الأساسية للعدالة التي تشكل بالنهاية الأساس المتين لبناء الحاضر وضمان الولوج السلس والمتوازن إلى المستقبل.

 

يُعتبر الحوار في العصر الحالي - أكثر من العصور الخوالي - أداة حيوية لاستقرار الدول التي تعاني من اضطرابات سياسية حادة أو اجتماعية مقلقة. فعندما تعاني البلدان من الأزمات الخانقة، يصبح الحوار وحده الوسيلة الوحيدة المتاحة للخروج بأقل الأضرار من الدوامة التي تطوقها وتزعزع توازنها؛ وسيلة تصحيحية فريدة للإعداد وتمهيد الطريق نحو الحلول السلمية وضمن حقوق جميع الأطراف. ويُسهم الحوار، علاوة على ذلك، في تخفيف حدة التوترات بين الجماعات المختلفة المتنافسة والمتصارعة، يعزز بناء الثقة المتبادلة ويشجع عمليا على التعايش المشترك.

 

ومن خلال الحوار البناء، يمكن كذلك تحقيق العدالة والمساواة بين جميع فئات وشرائح المجتمع والمساهمة في حصول الدالة وضمان مشاركة الجميع في صناعة القرار. ويشكل هذا النوع من الحوارات آلية فعّالة لتسوية الخلافات وتعزيز الممارسات الديمقراطية التي تضمن مشاركة الجميع في اتخاذ القرارات المصيرية.

 

ومن المعلوم أن الحوارات التي نجحت في العديد من دول العالم أظهرت بشكل قاطعً فعالية "خيار الحوار" في تحقيق الاستقرار ونشر العدالة وضمان المساواة.

 

فعلى سبيل المثال، استطاع "الحوار الوطني" الذي نظم بتونس، في أعقاب "الربيع العربي" الدامي، أن يجابه تحديات جسيمة كانت تحول دون بناء "ديمقراطية مستقرة" وتوصل بفضله الخصوم السياسيون إلى اتفاقات سياسية بين القوى المختلفة، ثم مهد الطريق لتشكيل حكومة توافقية حققت استقرارًا سياسيًا وأنهت للخلافات العميقة.

 

كما مثلت "اتفاقات السلام" في جنوب أفريقيا بين 1990 و1994 نموذجًا آخر لـ"حوار شامل" ناجح أسهم في إنهاء "الفصل العنصري" وبناء دولة ديمقراطية جمعت في توافق - كان بعيد المنال - جميع مكوناتها الاجتماعية والعرقية والسياسية.

 

ولقد استطاع كذلك "اتفاق الطائف" حول لبنان عام 1989 الذي تم التوقيع عليه بفضل الحوار الذي أطلق وشاركت فيه جميع الفصائل المتحاربة؛ استطاع إيقاف الحرب الأهلية وإعادة الاستقرار والقيام إصلاحات هيكلية وتنظيم توزيع السلطة بين الطوائف اللبنانية المختلفة.

 

إلا أن نجاح الحوار لا يقتصر على أطرافه المباشرة فقط، بل يتطلب دعمًا كبيرًا ومخلصا من جميع القيادات السياسية والمثقفين والمرشدين الدينيين والمصلحين الاجتماعيين، الذين تقع على عواتقهم جميعا مسؤولية بناء ومد جسور "الثقة" بين الأطراف المتنازعة. هؤلاء القادة مطالبون دون سواهم في هذا الإطار بالعمل الجاد، المجرد من الأطماع الضيقة، بتعزيز الحوار من خلال التشاور المفتوح وتبادل الأفكار والآراء وبإثراء المقترحات التوافقية الخالية من الحساسيات الضيقة سبيلا إلى الإسهام في استدامة عملية التفاوض وتحقيق نتائج ملموسة ومرضية للجميع. تصب جميعها في مصلة وطن الجميع المنيع.

 

ويعد بحق إمساك "اليد" الممدودة للحوار أرفع علامات النضج السياسي لأن أثر الحوار الذي سيقوم مهما كان مستوى شكله ومحاوره وسقفه لا شك ستتسع طاولته ليشمل جميع الأطراف ويلامس بعضا من مطالبها ويحقق جزء من مقاصدها، كما أنه سيصبح مصدرًا لاكتشاف الكفاءات القادرة على قيادة العملية الديمقراطية بشكل تشاركي ومرجعا للمتطلعين إلى مزيد من التشاور والتبادل حول القضايا العالقة من خلال المشاورات المستمرة والبحث عن الحلول مبتكرة التي تعزز من التوافق وتحقق المصلحة الوطنية العليا.

 

قد تعترض الحوار تحديات كثيرة منها:

 

-         رفض بعض القوى المعارضة للتفاوض،

 

-         ظهور موجات من الأزمات الخلافية،

 

-         فقدان الثقة التي تضعف الإرادة السياسية لدى الأطراف، وغياب البيئة الملائمة للتفاوض وهما الشرطان الأساسيان للوصول إلى تجاوز العقبات.

 

فالحوار الجاد والصادق هو الطريق الأمثل لتجاوز الخلافات وتحقيق الاستقرار، وهو ليس بالنهاية فقط مجرد وسيلة لحل الصراعات العابرة، بل هو كما أثبتت كل التجارب الناجحة "حجر الزاوية" في بناء "الثقة"، والسبيل القويم إلى تحقيق الديمقراطية القائمة على العدالة والمساواة، والضمانة الأكيدة والآمنة ولوج المستقبل العادل والمشرق.

 

جمعة, 14/03/2025 - 17:50