
حذّرتُ في مقالٍ نُشر بالفرنسية، عند الإعلان الأول عن اكتشاف النفط في بلادنا، من أن استغلال الغاز غالبًا ما يكون شرارةً تؤجج الاضطرابات في الدول الهشة. ويزداد هذا التهديد خطورة عندما تكون الموارد مشتركة مع دولة أخرى، كما هو الحال في حقل الغاز "السلحفاة" الذي تشترك فيه موريتانيا مع جارتها الجنوبية.
اليوم، تزداد هذه المخاطر بسبب الوضع الدولي. فالحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط أنتجت أزمة طاقية حادة علي المستوي العالمي مما أدي إلى تأجيج شهية القوى الكبرى التي باتت تسعى للاستحواذ على مواردنا.
رغم هشاشتها الهيكلية، والانقسامات الإثنية والعرقية والاجتماعية، تفتقر موريتانيا إلى خبرة كافية في المفاوضات الاستراتيجية، مما يجعلها في موقف ضعف أمام القوى الكبرى. يضاف إلى ذلك نظرة بعض الدول الأوروبية التي لا تزال تتعامل معها باستعلاء واحتقار، وكأنها إرث تابع لها. كما أن عقدة النقص أمام البيض والأوروبيين تحديدا، وضعف الحس الوطني في دوائر القرار، إضافةً إلى تفشي الرشوة واستشراء الفساد، كلها عوامل جعلت من موريتانيا هدفًا مكشوفًا وفريسة سهلة - وربما الأسهل في محيطها الإفريقي.
كل هذه الحيثيات مهدت الطريق أمام التدخل الأوروبي في بلادنا، مما أتاح له فرصة العبث بأمن دولة فقيرة تكافح لتوفير أبسط الخدمات لمواطنيها، فضلاً عن أن تصبح ملاذًا لمن لم تملك أوروبا، الغارقة في انحلالها الأخلاقي، الجرأة على تحمل تبعات فسادهم —من مثليين، وأصحاب سوابق محترفين، ومدمنين، وغيرهم ممن لفظتهم مجتمعاتهم، وهم في غالبيتهم لا ينتمون إلى ملة الإسلام.
عندما تنظم أوروبا الفوضى
علّمنا التاريخ أن ثروات العراق وليبيا كانت سببًا في غزوهما وتدميرهما. لم تكن موريتانيا يومًا محط أنظار القوى الكبرى، لكنها اليوم، مع ما تملكه من احتياطيات الغاز، واليورانيوم، وإمكانات هائلة في الهيدروجين الأخضر، باتت تُسيل لعاب الطامعين.
أوروبا كان بإمكانها، كما فعلت في ليبيا، أن تستغل خلافاتنا الداخلية لجرّنا إلى حرب أهلية، فتنهب مواردنا وتغرقنا في دوامة السلاح والفوضى. لكن هذه الاستراتيجية، التي أثبتت فشلها في ليبيا وأضرّت حتى بمخططيها، تبدو الآن مكلفة وغير مضمونة العواقب.
رغم مأساويتها، تظل الحرب الأهلية ضربًا من الفوضى المؤقتة، تترك خلفها خسائر بشرية يعوّضها الزمن بالنمو السكاني، ودمارًا في البنية التحتية يُعاد بناؤه، أحيانًا بشكل أكثر تطورًا، فور إخماد نيرانها. لكنها، رغم فظاعتها، تحافظ على الجوهر: الهوية، الدين، والشعب.
أما غمر الهجرة، فهو الاجتياح الصامت، الأخطر والأشد فتكًا، لأنه لا يأتي بغزو عسكري معلن، بل بأوراق رسمية واتفاقات دولية تمنحه الشرعية. إنه استيطان مقنّع، يحمل معه الفوضى والجريمة المنظمة، كما رأينا في الأسابيع الماضية في تفرغ زينة، حيث بدأت طلائع الوافدين الجدد تقتل، وتسرق، وتغتصب، مهددة السكينة العامة.
لكن الكارثة الحقيقية تتجلى عندما لا يبقى للندم معنى، وحين يتلاشى الوطن دون ضجيج، إذ بخلاف الحرب الأهلية التي قد تدمّر الحجر، فإن الغزو الديموغرافي يمحو الهوية، ويعيد ترتيب الدين، ويفكك البنية السكانية للأمة، حتى لا يبقى منها شيء يُبكى عليه.
الخطة الأكثر خداعًا: التغيير الديموغرافي القسري
بدلًا من إشعال حرب دامية، تتبنى أوروبا اليوم مخططًا أكثر دهاءً: اتفاق مشبوه يحوّل موريتانيا إلى مستودع بشري للمُهجّرين قسرًا من أوروبا. بعض التقارير تتحدث عن 17 مليون شخص سيتم توطينهم خلال سنوات قليلة! رئيس وزراء جزر الكناري كشف أن 500 ألف شخص تم استقبالهم بالفعل في موريتانيا، والعدد في تصاعد.
هذه ليست مجرد هجرة، بل إعادة تشكيل مقصودة لهوية البلد وثقافته ودينه، بهدف حل أزمات أوروبا السكانية والاجتماعية على حسابنا، وبأموالنا! الثمن المعروض؟ 500 مليون دولار، وهو مبلغ هزيل لا يغطي حتى نفقات الاستقبال الأولية، فما بالك بالإسكان، والغذاء، والتعليم، والرعاية الصحية، والتأهيل المهني.
غياب إطار مؤسسي للتشاور مع المرشحين السابقين واستسلام لأوروبا غير مبرر
كل هذا يحدث في غياب أي نقاش وطني حقيقي. في دول أخرى، يتم إشراك كل المرشحين السابقين لرئاسة الجمهورية و زعماء القوى الوطنية في القضايا المصيرية، بينما في موريتانيا، تُمرَّر أخطر الاتفاقيات دون استشارة الرأي العام أو ممثليه.
بينما تنهض غرب إفريقيا بقيادة نخبة بانافريقية إسلامية ترفض الهيمنة الاستعمارية الجديدة وتدافع عن مصالحها بشجاعة، وتُعدّ المكاسب الاقتصادية والاجتماعية خير شاهد على ذلك، بما في ذلك الحصة الأوفر التي انتزعها المفاوض السينغالي، عكس زميله الموريتاني، من شركات النفط لصالح بلاده، تظل موريتانيا أسيرة التخاذل والخضوع، وتتأرجح بين خيانة الأمانة والتفريط في حقوق و مصالح شعبها !
فلنتدارك قبل فوات الأوان و لنخطو جميعا – أغلبية و معارضة - خطوة كبيرة نحو الله في هذا الشهر المبارك، من أجل الوطن المكلوم والمطعون من الخلف، ولننهي هذا العقد الجائر الذي أرادت فيه أوروبا الاستعبادية أن تطلق رصاصة الرحمة على بلادنا.