
قد لا يعلم كثير مِن غير المتابعين أن «العقيدة السلفية» أصبحت واحدةً من عدة توجهات تبنّاها الزعيم الليبي السابق المرحوم العقيد معمر القذافي خلال السنوات الأخيرة من حياته وحقبة نظام حكمه، في إطار خطة واسعة للعمل على إبقاء الحكم داخل عائلته والاستعداد لتوريث السلطة لابنه المهندس سيف الإسلام القذافي، في وقت بدأ فيه القذافي الأب نفسه يدرك أن أغلبية الليبيين لم تعد مقتنعة بطروحات «النظرية العالمية الثالثة»، المتضمنة في «الكتاب الأخضر»، وشعاراتها الثورية الحالمة!
وفي هذا الإطار كانت خطةُ توريثِ حكمِ «الجماهيرية العظمى» تقتضي من سيف الإسلام أن يكون وجهَ الانفتاح الليبرالي العلماني التنويري للنظام، وهو ما كان بالفعل، حيث استطاع أن يربط أقوى الصِّلات بمراكز النفوذ السياسي والمالي والإعلامي والأمني في أوروبا والولايات المتحدة، كما نجح في استقطاب الكثير من وجوه الطبقة المتوسطة الليبية الليبرالية المعارضة في الخارج، فأسند مناصب إلى العديد منهم وأشرك آخرين في مشروعات وصفقات تجارية كبرى مثلت عنواناً كبيراً لمرحلة الانفتاح الليبرالي التي بدأت ليبيا تدخلها خلال العشرية الأولى من الألفية الثانية.
وفي ذات الوقت كان القذافي الأب يتولى بنفسه مشروعاً استقطابياً آخر يشتمل على ثلاث مكونات ذات طابع تقليدي كلها: التلويح بإحياء الخلافة العبيدية (الفاطمية) في شمال أفريقيا للضغط على دول المنطقة من أجل خرق الحصار الدولي على ليبيا، وحشد القبائل داخل ليبيا نفسها والفضاء الصحراوي ككل (مع إثارة بعض الصراعات والنعرات فيما بينها)، وإنشاء اتحاد عالمي للشرفاء وآل البيت في العالم باعتبار أنه هو أيضاً ينتمي للفترة الشريفة، مما يمنحه شرعيةً دينيةً لتزعم القبائل ولإعلان نفسه (أو نجله) خليفةً فاطمياً.
وبالإضافة إلى الخطة (أ) الموكولة إلى المهندس سيف الإسلام، والخطة (ب) التي يقودها معمر بنفسه، كانت هناك الخطة (ج) التي وُكل أمرها إلى نجله الثاني الساعدي القذافي، وقد تمثلت في إنشاء وخلق تيار سلفي على هيئة ظهير ديني داعم للنظام ولسلطة العائلة.
وكان الساعدي ضابطا برتبة عالية في الجيش، لكنه كان مولعاً بكرة القدم، وقد انخرط في الأندية الكروية الإيطالية وأنفق عليها مئات ملايين الأوروهات، ليصبح لاعباً في أحد تلك الأندية، وقيل إن ذلك تم أيضاً بواسطة من المليار دير ورئيس الوزراء الإيطالي الراحل بيرلسوكني الذي كان صديقاً شخصياً للعقيد معمر .
لكن في مطلع العشرية الأولى من الألفية الثالثة بدأ الساعدي يظهر توجهاً دينياً واضحاً، وتجلى ذلك في مظاهر ومسلكيات عرفها الكثير من الليبيين والعرب المقيمين في ليبيا، بما في ذلك محاولة إنشاء «شرطة دينية» في البلاد، علاوةً على تقريب العديد من مشايخ السلفية (المدخلية)، وتنظيم مناسبات سنوية يستضيف فيها عدداً من رموز السلفية على مستوى الوطن العربي. وبالطبع فقد كانت أنشطة ومؤتمرات السلفية المدخلية في ليبيا تجري بإدارة تامة من اللجان الثورية وتحت إشرافها المباشر، وداخل مساحات محددة يمنع فيها ممارسة أي نوع من «النقد» الفكري أو السياسي.
وكان أحد أقرب المقربين من الساعدي القذافي، هو ابن عمه الدكتور أحمد محمد إبراهيم منصور القذافي، الذي كان داعماً للتوجهات السلفية الجديدة شبه الرسمية، منذ بداية ظهورها، وكان له صلات قوية بالعديد من الجاليات العربية في البلاد، بما في ذلك بعض الطلاب والباحثين الموريتانيين في الجامعات الليبية من منتسبي «اللجان الثورية»، والذين عاد بعضهم إلى نواكشوط ليمارس التُّقيةَ في بداية الأمر، منتقداً السلفية وممتدحاً المتصوفة.
أما زعيم هذا التيار السلفي الجديد، أي الساعدي القذافي، فقد قاد إبان اضطرابات «الربيع العربي» التي اندلعت نيرانها في ليبيا عام 2011، كتيبةً عسكرية قيل إن معظم مقاتليها كانوا من السلفيين الذين جنّدهم خلال السنوات السابقة.
وبعد سقوط طرابلس ثم مقتل القائد في أكتوبر 2011، انسحب الساعدي إلى النيجر، وهناك كشف عن طموحه إلى إنشاء إمارة إسلامية انطلاقاً من منطقة الطوارق في جنوب ليبيا، وعن سعيه «إلى حشد أتباعه لهذا الغرض من خلال الفكر السلفي المتشدد»، كما نقل عنه مراسل صحفي موريتاني التقاه حينذاك في نياميه.
ومعلوم أن السفليين في مرحلة من المراحل كفَّروا المرحوم معمر القذافي، خاصة بسبب موقفه من الحديث الشريف، ومن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وبعض اجتهاداته الخاصة بتفسير القرآن الكريم، وتحديداً حول الخطاب القرآني الموجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله بـ«عدم الزاميته» للمسلمين! بيد أنه في مرحلة لاحقة أصبحت طرابلس تحتضن مؤتمرات السلفيين (المداخلة) برعاية وتشجيع من الساعدي القذافي شخصياً، ودعم وإشراف من «اللجان الثورية»، وفي إطار البعد (ج) من الخطة العامة لإدارة مرحلة ما بعد القذافي الأب، بتوجهاتها السياسية والأيديولوجية البديلة.
محمد المنى