قال رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُثَاءِ جَهَنَّمَ"، قَالُوا يَا رَسُولَ اللهُ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؟ قَالَ: وإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ؛ فَادُعُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَسْمَائِهِمْ بِمَا سَمَّاهُمُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللهَ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِي
القبلية: أداة ابتزاز أم رابطة اجتماعية؟
تُعرَّف القبلية، في سياقها الطبيعي، على أنها نظام اجتماعي يستند إلى روابط الدم والانتماء المشترك، مما يعزز التكافل والتعاون بين أفراد المجتمع. غير أن هذه الروابط، حين يتم استغلالها بشكل سلبي، تتحول إلى:
- أداة ابتزاز مالي،
- وتستر على العيوب الاجتماعية،
فتغدو وسيلة لتحقيق المصالح الضيقة بدلًا من أن تكون لبنة في بناء مجتمع قوي ومتجانس. وفي هذا الإطار، تصبح القبلية غطاءً لحماية المصالح الشخصية، فتُستخدم لإبعاد الأفراد عن المساءلة، ولفرض أجندات فردية أو جماعية تتعارض مع القيم المدنية.
دور الإعلام في تكريس القبلية
بدلًا من أن يكون الإعلام أداة تنويرية تُعزز قيم المواطنة، نراه - للأسف - يساهم في إعادة إحياء النزعات القبلية من خلال الترويج لقضايا مفتعلة ذات أهداف خفية. فبعض المنصات الإعلامية تفتح المجال لأصوات تعمل على تأجيج العصبيات القبلية، إمّا عبر خطاب مباشر يحفّز النزعات الانعزالية، أو عبر تغطية انتقائية تكرّس صورة القبيلة كفاعل رئيسي على حساب الدولة المدنية. هذا التلاعب الإعلامي يعيد إنتاج واقع مختل، حيث تصبح النزاعات القبلية أولوية على حساب قضايا التنمية والعدالة الاجتماعية.
الدولة بين الغياب وقسرية التواطؤ
يفترض بالدولة أن تكون الحكم العادل الذي يرسّخ أسس العدالة والمواطنة، إلا أنها - في كثير من الأحيان - تتخذ دور المتفرج أو الغائب عن المشهد. وربما يكون هذا الغياب مقصودًا، إذ إن القوى الفاعلة داخل الدولة العميقة تستغل التوازنات القبلية لتعزيز نفوذها. فالقبيلة تُستخدم كأداة ضغط لضبط موازين القوى، مما يؤدي إلى تكريس هيمنة مصالح ضيقة تُعيق التحول نحو مجتمع مدني حقيقي قائم على سيادة القانون.
الاجتماعات القبلية: صلح مصطنع بلا حلول حقيقية
في ظل هذا الواقع، تتجلى الاجتماعات القبلية في شكل صلح مصطنع يخدم المصالح المادية الآنية أكثر من كونه خطوة نحو حلول جذرية. تُرفع الجلسات دون اتخاذ قرارات حاسمة، ويتم تأجيل القضايا إلى إشعار آخر، ما يعكس غياب الإرادة الحقيقية لمعالجة المشكلات من جذورها. وبدلًا من أن تكون هذه الاجتماعات وسيلة لتعزيز الاستقرار، تصبح مجرد طقوس شكلية تُكرّس الخلل القائم وتُعيد إنتاج الأزمات بدل حلها.
القبلية كعائق أمام الحداثة والتنمية
إن استمرار الديناميكيات القبلية بهذا الشكل يُعرقل التطور الطبيعي نحو الحداثة، حيث يتم تقديم المصالح الفردية والعشائرية على حساب مصلحة الوطن والمجتمع.
في الدول المتقدمة، تم تجاوز مثل هذه القضايا من خلال ترسيخ سيادة القانون والمواطنة كأساس للوحدة الوطنية، بينما في المجتمعات التي لا تزال القبلية فاعلة فيها، نجد أن التقدم مُقيّد بحسابات الولاءات والانتماءات الضيقة. هذا الواقع يُحبط أي محاولة جادة للانطلاق نحو مستقبل أكثر عدالة ومساواة، حيث تبقى الأولوية للعلاقات القبلية بدلاً من الكفاءة والجدارة.
الازدواجية الدينية ودورها في تكريس القبلية
من المفارقات المؤسفة أن بعض رجال الدين - الذين يُفترض بهم أن يكونوا صوتًا للحق والعدالة - يتشبثون بالعصبية الجاهلية والطبقية المجتمعية، بل ويوظفون الفتاوى لتبرير واقع يعلمون أنه يتعارض مع مقاصد الشريعة. هذه الازدواجية المقيتة، التي لا تخفى على المؤمنين والشرفاء، تجعل من القبلية وسيلة لتحقيق منافع شخصية ضيقة، حيث يُستخدم الدين لتكريس وضع مختل لا يتماشى مع مبادئ العدالة والمساواة التي تقوم عليها الشريعة الإسلامية. وبدلًا من أن يكون الدين أداة لإصلاح المجتمع وتعزيز مبادئ الحق، يتحول - في بعض الحالات - إلى غطاء يُستخدم لترسيخ التمييز الاجتماعي وإضفاء شرعية على ممارسات تتعارض مع جوهر القيم الإسلامية.
نحو وعي مجتمعي جديد
لمواجهة هذا الواقع، لا بد من إعادة النظر في دور الدولة ومؤسساتها في ضبط النزعات القبلية، وتعزيز دور القانون كمرجعية أساسية لحل النزاعات بدل الاحتكام إلى التوازنات القبلية. كما يجب أن يتحول الإعلام من أداة تأجيج إلى وسيلة توعية تُرسخ القيم المدنية وتعزز مفهوم المواطنة. إضافة إلى ذلك، لا بد من تطوير وعي مجتمعي يضع القيم الوطنية فوق أي اعتبار عشائري أو مصلحي، فالنهضة الحقيقية لا تتحقق إلا بإعلاء المصلحة العامة على المصالح الضيقة.
إن القبلية، حين يتم استغلالها بشكل خاطئ، تتحول من رابطة اجتماعية إلى أداة لتعطيل التقدم والتنمية. وفي ظل غياب الدولة أو تواطئها، ومع دور إعلامي سلبي وازدواجية دينية تُكرّس الانقسام، يصبح من الضروري العمل على إعادة هيكلة الوعي المجتمعي بما يرسّخ سيادة القانون والمواطنة كأساس لبناء مجتمع أكثر عدالة واستقرارًا. وحدها هذه الخطوات كفيلة بانتشال المجتمع من براثن التخلف والانقسام، ووضعها على طريق الحداثة والتنمية المستدامة.