![](https://aqlame.com/sites/default/files/styles/large/public/A3590123-55A0-4640-8456-A9D5FAB1A3A7.jpeg?itok=p-pqtmDN)
لطالما وجدت موريتانيا نفسها في مركز التوازن الإقليمي بين المغرب والجزائر، حيث تشكل نقطة تقاطع بين شمال وغرب إفريقيا ومسرحا لتداخل مصالح جيوبوليتيكية معقدة. لا يتعلق الأمر هنا بمجرد تفاعلات بين جيران، بل بامتداد لتاريخ طويل من التحالفات والصراعات والمصالح المتشابكة. فمنذ سنوات استقلالها الأولى، حاولت نواكشوط انتهاج سياسة الحياد الإيجابي، في مسعى منها للحفاظ على علاقات متوازنة مع مختلف جيرانها وللنأي بمشروعها الوليد عن الانزلاق في مستنقع التوترات المزمنة غير المجدية والمتسمة أحيانا بكثير من الخطورة.
تدرك موريتانيا بأنها تقع في منطقة مضطربة تعج بالتوترات الحدودية والعرقية وبهشاشة مشاريع الدول الناشئة عن مخططات استعمارية مغرضة، وأنها بشكل خاص تقف على خط تماس حساس بين دولتي المغرب والجزائر، حيث يتنامى "صراع أبدي" على النفوذ وتتشابك المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية، لدرجة أن احتمال اندلاع نزاع مسلح بين الطرفين، يظل غير مستبعد في أحيان كثيرة ومرجحا في أحايين أخرى.
ومع أن موريتانيا جربت الأضرار التي يمكن أن تنجر عن سياسات المحاور الاقليمية، خلال فترات ما يعرف بصراع محوري: باريس – الرباط – دكار، وطرابلس – الجزائر، وخبرت عن قرب المخاطر التي تواجهها الدول الصغيرة عندما تتحول إلى ساحة للصراعات الجيوسياسية؛ إلا أن تصاعد التنافس المغربي الجزائري حول قضايا إقليمية مثل الصحراء الغربية والنفوذ في الساحل وغرب إفريقيا، والتداعيات السلبية لذلك التنافس على استقلال البلاد واستقرارها وسلامة مواطنيها وصورتها أمام مواطنيها وأمام العالم، يعيد اختبار قدرة موريتانيا على الحفاظ على حيادها.
تعود سياسة المحاور إذا في ثوب جديد، لتضع موريتانيا أمام تحديات متجددة، ولتضع بشكل خاص "سياسة الحياد الموريتانية" ذات الشهرة الواسعة، أمام خيارات صعبة تدفعها لإعادة مساءلة المكاسب الناجمة عن التعاون مع البلدين كما الأضرار المترتبة عن تنافسهما المتنامي بشكل مستفز ومثير للقلق، لعلها تتخلص من مشيتها التي طال أمدها فوق حبل المغامرة المشدود بين التنافس والتعاون.
البعد التاريخي: من التوتر إلى التعاون
يتطلب إدراك تعقيدات العلاقات الموريتانية مع كل من المغرب والجزائر، استعراض بعض جوانب المسار التاريخي لهذه العلاقات:
1. العلاقات الموريتانية المغربية:
بدأت العلاقات مع المغرب بمرحلة من التوتر العميق، حيث رفضت الرباط الاعتراف باستقلال موريتانيا عام 1960، معتبرة إياها جزءا من أراضيها. لكن الموقف المغربي تغير تدريجيا مع وصول الملك الحسن الثاني للسلطة، إلى أن حصل تقارب بين البلدين نهاية ستينيات القرن العشرين وخصوصا بداية السبعينيات عندما أصبحت موريتانيا شريكة للمغرب في اقتسام الصحراء الغربية عقب انسحاب الاستعمار الإسباني. تلك الشراكة التي أدخلت موريتانيا في حرب مع جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر، وأسفرت عن انقلاب 1978 وانسحاب موريتانيا من النزاع واعترافها لاحقا بالجمهورية الصحراوية.
وستدخل العلاقات الموريتانية المغربية منذ التوقيع على اتفاق الجزائر 1979 بين موريتانيا والبوليساريو، في فترة اضطراب ستصل أوجها بعد استضافة الرباط للمعارضة الموريتانية ورعايتها للمحاولة الانقلابية في 16 مارس 1981، مما تسبب في قطيعة دبلوماسية بين البلدين، سيتم تجاوزها تدريجيا نهاية الثمانينيات مع إعادة فتح قنوات التواصل، وصولا إلى تعزيز التعاون التجاري عبر معبر الكركرات في بداية الألفية. وبالفعل ستتعزز التبادلات التجارية بين البلدين وسيتحول هذا المعبر إلى شريان اقتصادي يربط المغرب بغرب إفريقيا، لكنه سينظر إليه من طرف الجزائر والبوليساريو على أنه انتهاك للحياد الموريتاني باعتباره يمر من أرض صحراوية.
2. العلاقات الموريتانية الجزائرية:
دعمت موريتانيا الثورة الجزائرية ورفضت محاولات فرنسا اقتطاع جزء من أراضيها ضمن ما عرف بمنظمة الأقاليم الصحراوية، وحين حصلت الجزائر على استقلالها تطورت العلاقات بين البلدين بشكل إيجابي، خصوصا فيما يتعلق بحصول موريتانيا على عملتها الخاصة وتأميم شركة ميفرما. لكن دعم الجزائر لجبهة البوليساريو في حربها ضد موريتانيا خلال فترة تقسيم الصحراء، سيؤدي إلى قطع العلاقات طوال فترة الحرب، باعتبار أن الرئيس الجزائري بومدين كان مهندس فكرة تركيز العمليات الحربية على موريتانيا باعتبارها الحلقة الأضعف.
تحسنت العلاقات لاحقا مع انسحاب موريتانيا من الصراع واعترافها بجبهة البوليساريو، ليشهد التعاون خلال الثمانينيات فترة ذهبية أخرى، سرعان ما ستعيش بعدها العلاقات مرحلة برودة طويلة نسبيا لن تعرف الدفء بعدها إلا في ظل الرئيس الحالي عبد المجيد تبون الذي سيعلن بأن موريتانيا تمثل العمق الاستراتيجي للجزائر نحو المحيط، وسيشهد التعاون في ظله قفزة نوعية بلغت أوجها مع افتتاح المعبر الحدودي بين البلدين وتدشين المنطقة الحرة بينهما وإطلاق أشغال طريق تندوف-الزويرات الذي يهدف إلى تعزيز التجارة الثنائية ودعم رغبة الجزائر في الوصول إلى الأسواق الإفريقية.
التحديات الراهنة: السير على الحبل المشدود
يجد الحياد الموريتاني نفسه في مرمى نيران التنافس المغربي الجزائري، مما يجعل إدارة التوازن بينهما أشبه بالرقص على حبل مشدود، ذلك أن أي خطوة أو تصريح من موريتانيا سرعان ما يتم تفسيرها من قبل أحد الطرفين كإشارة على نوع من الانحياز المخطط له بكثير من العناية للطرف الآخر، مما يعرض نواكشوط لضغوط مزدوجة من طبيعة اقتصادية وإعلامية ودبلوماسية.
1. الضغوط الاقتصادية المتقاطعة:
تظهر مشاريع مثل معبر الكركرات مع المغرب ومعبر تندوف مع الجزائر، كيف يمكن للمصالح الاقتصادية أن تتحول إلى أدوات للتنافس السياسي. ففي الوقت الذي يسعى فيه المغرب إلى تعزيز دوره كممر رئيسي للتجارة مع غرب إفريقيا عبر الأراضي الموريتانية، فإن الجزائر تعمل جاهدة هي الأخرى على فتح أسواق جديدة لمنتجاتها أيضا عبر الأراضي الموريتانية، مما يضع موريتانيا في موقف حرج وهي تسعى للمحافظة على موقف متوازن من الطرفين.
2. جيوش التواصل الاجتماعي والإعلام الموجه:
أصبح الإعلام وساحات التواصل الاجتماعي أدوات أساسية في التنافس بين المغرب والجزائر، فأي خطوة تتخذها أو لا تتخذها موريتانيا ستكون معرضة للتضخيم من قبل جيوش رواد التواصل الاجتماعي وحتى من طرف الاعلام التقليدي وأحيانا بعض القوى السياسية، مما يضغط على القيادة الموريتانية ويحدث تأثيرا مضاعفا في الرأي العام المحلي والإقليمي. وبالطبع فإن هذا الإعلام، الذي يتحرك غالبا بدوافع شعبوية غوغائية، يساهم بدوره في توسيع الهوة بين الجارتين ويجعل من سياسة الحياد الموريتاني تحديا يوميا تنبغي رعايته والصبر عليه رغم الأثمان الباهظة.
3. الضغوط الدبلوماسية:
في مثل هذه الظروف، سينظر أيضا إلى كل زيارة رسمية أو اتفاقية اقتصادية بين موريتانيا وأي من الدولتين، على أنها تمثل انحيازا صريحا لإحداهما ضد الأخرى. كما حصل مؤخرا مع الزيارة التي قام بها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لنواكشوط يوم 09 ديسمبر 2024، للمشاركة في المؤتمر القاري حول التعليم ومستقبل الشباب والقابلية للتوظيف، والتي أثارت حفيظة المغاربة، ومع الزيارة الخاصة للمغرب التي أداها الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني يوم 20 ديسمبر والتي التقى خلالها الملك محمد السادس، وقوبلت بتفسيرات متشددة في الجزائر. وكما يحصل حاليا بعد الاعلان عن توقيع موريتانيا والمغرب، مذكرة تفاهم للتعاون في قطاعي الكهرباء والطاقات المتجددة، تتضمن "دراسة إنجاز مشروع ربط كهربائي يعزز استقرار الشبكات، ويحسن إمدادات الكهرباء". ومن الواضح أن مثل هذا الضغط يجعل موريتانيا في حالة استنفار دبلوماسي دائم لتقديم توضيحات وأعذار وتطمينات، من أجل إعادة ضبط ميزان التوازن.
الفرصة الاستراتيجية: تحويل الحياد إلى نفوذ
تمثل موريتانيا نقطة ارتكاز استراتيجية في التنافس بين المغرب والجزائر، بفضل موقعها الجغرافي الذي يجعلها بوابة حيوية بين شمال وغرب إفريقيا. بالنسبة للمغرب، تعتبر موريتانيا معبرا تجاريا رئيسيا عبر معبر الكركرات أو أي معبر آخر يتم إنشاؤه، مما يعزز ارتباط المملكة بأسواق غرب إفريقيا والساحل ويعزز دورها كقوة اقتصادية إقليمية. إضافة إلى ذلك، ينظر المغرب إلى موريتانيا كشريك محتمل في مواجهة النفوذ الجزائري وتقوية موقفه في نزاع الصحراء الغربية.
أما الجزائر، فترى في موريتانيا امتدادا استراتيجيا لأمنها الوطني وممرا للوصول إلى الأسواق الإفريقية جنوب الصحراء وشريكا في مواجهة التحديات الأمنية المشتركة مثل الإرهاب في منطقة الساحل. كما أنها تسعى إلى إبقاء موريتانيا ثابتة على موقفها الحالي من القضية الصحراوية بعيدا عن التجاوب مع المساعي المغربية الرامية إلى جرها إلى صفها. ومن خلال مشاريع مثل المنطقة الحدودية الحرة وطريق تندوف-الزويرات، تسعى الجزائر لتعزيز حضورها التجاري والاقتصادي في موريتانيا وغرب إفريقيا.
وأمام تحول موريتانيا إلى ساحة تنافس جيوبوليتيكي رئيسية بين الجارتين، لم يعد تحويل الحياد الموريتاني إلى أداة نفوذ إقليمي مجرد خيار، بل أصبح ضرورة استراتيجية، ذلك أن الموقع الجغرافي المشار إلى أهميته آنفا، حين ينضاف إلى تاريخها السياسي وتجاربها المريرة مع الجارين اللدودين، يتيح للدبلوماسية إمكانية استغلال حياد الدولة في سبيل تحقيق مكاسب بالغة الأهمية تتناسب مع أحجام الأعباء التي تنجر عن صراع تؤكد المعطيات الجغرافية والسياسية بأن نهايته ليست قريبة. وبإمكان تعزيز هذا النفوذ أن يمر في مرحلته الأولى بالنقاط التالية:
1. استثمار الموقع الجغرافي لتعزيز النفوذ الاقتصادي:
يمكن لموقع موريتانيا الاستراتيجي كجسر بين شمال وغرب إفريقيا، أن يتحول إلى ورقة قوة إذا ما أحسن استثماره في المبادرات الاقتصادية التي تستفيد من التنافس المغربي الجزائري، مثل مشاريع الربط الحدودية التي تجعل من البلاد ممرا تجاريا رئيسيا، غير أنه أكثر من ذلك يمكن استثماره فيما هو أبعد من مجرد ممر للتجارة أو منصة لعبور المشاريع، بتحويل البلاد إلى مركز رئيسي للتكامل الاقتصادي الإقليمي، من خلال مشاريع مشتركة مع جيرانها في مختلف الاتجاهات.
2. الوساطة الدبلوماسية كأداة للنفوذ:
بفضل تاريخها في الوساطة داخل القارة الإفريقية وحتى خارجها، يمكن لموريتانيا استعادة دورها كوسيط يتمتع بالمصداقية بين المغرب والجزائر، ذلك أنه عبر تنظيم لقاءات غير رسمية أو طرح مبادرات إقليمية مشتركة تشمل قضايا الأمن والتجارة والطاقة أو القضايا الانسانية، يمكن لنواكشوط تقديم نفسها كطرف موثوق يساعد البلدين على إعادة ترميم جسور التعاون ويعطي الأمل للمواطنين المغاربيين بإمكانية تعزيز التعاون بين بلدان المغرب العربي.
3. استثمار الإعلام:
ضمن السياق الحالي، تصبح موريتانيا في أمس الحاجة إلى تعزيز خطابها الإعلامي الرسمي بغية ضمان توضيح سياساتها ومواقفها. فمن خلال بناء وإدارة سردية متوازنة ومقنعة وتأمين القنوات والوسائط المناسبة لتوصيلها، تستطيع نواكشوط تقليل التأثير السلبي لجيوش التواصل الاجتماعي في المغرب والجزائر. كما أن تطوير استراتيجية اتصالية تهدف إلى تعزيز حياد موريتانيا يمكن أن يساهم في تهدئة التصعيد الإعلامي.
4. مبادرات "محاور التعاون المشتركة":
بدلا من أن تظل موريتانيا مستسلمة للدور المرصود لها باعتبارها الطرف الأضعف في معادلة التنافس، يمكن لها أن تتبني استراتيجية هجومية تقوم على إنشاء محاور تعاون مشتركة تشمل الجارتين، حيث أن مبادرات ذات أهمية إقليمية مثل مشاريع للطاقة المتجددة أو تأسيس منصات للتبادل الثقافي والتعليمي، بإمكانها أن تحول التنافس إلى تعاون يخدم المصالح المشتركة للجميع ويبدد الشكوك ويعيد بناء الثقة.
ليس على حياد موريتانيا إذا أن يظل موقفا دفاعيا ضمن إطار استراتيجية هدفها تأمين البقاء، بل إن الوقت قد يكون حان لتتحول سياسة الحياد إلى استراتيجية فعالة لتعزيز مكانة البلاد كفاعل رئيسي في المنطقة، ذلك أنه من خلال استثمار موقعها الجغرافي وتعزيز مبادرات الوساطة وتوظيف الإعلام لإدارة صورتها، يمكن لموريتانيا أن تحقق مكاسب اقتصادية ودبلوماسية تتناسب مع أهميتها الجيوبوليتيكية.
ومع استعادة دورها كوسيط يحظى بالمصداقية وتعزيز مشاريعها الإقليمية المشتركة، يمكن لموريتانيا أن تتحول من موقع المتلقي للضغوط والمستسلم لها إلى موقع الفاعل الذي يسهم في تحقيق استقرار المنطقة وتطويرها. فسياسة الحياد، إذا ما أديرت بحكمة، يمكن أن تشكل الجسر الذي يفتقده الكل للربط بين القوتين المتنافستين، والأداة القادرة على تحويل موريتانيا إلى مركز استقرار ونفوذ إقليمي مستدام.
مركز أودغست للدراسات الإقليمية