حكايات عن أوداغستْ.. موريتانيا ومعالمها المجهولة

كان شهر فبراير من العام الماضي 2024 زمنًا لمحاولتي الثانية لاستكشاف الشرق الموريتاني، حيث توجهت رفقة صديقي ناصر ودّادي إلى مدينة تامشكط الهادئة في ولاية الحوض الغربي، وذلك بعد شهر من سلام هامس وأولي لم أتخط فيه عاصمة ولاية لعصابه مدينة "كيفه"، أكثر المدن كثافة سكانية بعد العاصمة الموريتانية نواكشوط، وتبعد كيفه عن عاصمة البلاد 600 كيلومتر، وتعبر بوضوح عن التنوع الثقافي والعرقي في البلاد.

كان هدف ذلك الاستكشاف التعرف على مواطن جديدة من بلدي المتنوع بتضاريسه وناسه وعاداته، وهو شغف يعتمل في وجداني ويترسخ يومًا بعد يوم. وكان ذلك الشغف مصحوبًا بشعورٍ بالتقصير والكسل، إذ لم يسبق لي أن زرت شرق البلاد قبل 2024، رغم أنني سافرت شمالًا وجنوبًا حتى عبرتُ الحدود وتجوّلت في الوسط.

كانت رحلتي الأولى والثانية مع الصديق والرفيق ناصر ودّادي في الشتاء، الفصل غير المفضّل عند الموريتانيين للسفر إلى الشرق، فالفصل المحبّب للتمتع بسحر الشرق هو الخريف، أي أيام نزول المطر ما بين الشهر السادس والتاسع من العام، حيث ينبت العشب وتتزيّن الأرض وترتوي المسطحات المائية وتنتعش المزارات السياحية الطبيعية. لكن الشتاء فصلي المفضل، ويبدو أنه الأنسب لزيارة الشرق ومُدُن الداخل في الأغلب، حيث تسمح الأجواء اللطيفة بالتنقل بأريحية ورحابة، أما بقية الفصول فالحرّ عائق حسب ظني.

سلكنا طريق الأمل، أطول طرق البلاد (1200 كلم تقريبًا)، ومررنا في رحلة من نواكشوط بمدن وقرى متعددة، مثل مدينة بوتِلِميتْ في ولاية التَّرارزة وألاكْ ومَقْطع لحْجارْ  وصَنْغَرافة في ولاية لبراكنة وأشْرم في ولاية تكانتْ وأشْكيْكْ وكامورْ وكَرو وكيفه في ولاية لعصابه، حتى وصلنا وجهتنا الأخيرة مدينة تامْشِكطْ في ولاية الحوض الغربي، واستمر السفر لما يزيد على 12 ساعة بها بعض التوقفات الخفيفة، والصعوبات الناجمة عن رداءة الطريق، خاصةً بين مدينتيْ ألاكْ ومقطع لحجارْ.

 

 

من تامْشَكَطْ إلى أوداغستْ

 

وصلنا إلى مدينة تامشكط قبل انتصاف الليل بعد سفر طويل قطعنا فيه 780 كلم، صحِبَنا فيه إبداع الفنانة محجوبة بنت الميداح  وسيداتي ولد آبه والشيخ ولد آبه وهذا الثلاثي هم الأصوات الموريتانية المفضّلة عند رفيق رحلتي ناصر المحب للموسيقى التقليدية.

تامشكطْ مقاطعة موريتانية تقع في الجزء الشمالي من ولاية الحوض الغربي وتحدّها من الغرب ولاية لعصابة، ومن الشمال ولاية تكانتْ، ومن الشرق مقاطعة لعيونْ، ومن الجنوب مقاطعة الطينطانْ، ولها طبيعتُها الخلابة، فهي تمتلك موقعًا مميزًا، وتجاورُها مناطق رطبة وبحيرات تحفز أهلها على الزراعة، وتأسست على يد الاستعمار الفرنسي عام 1927، وقد أنشأ الفرنسيون فيها، أولًا، قلعة على ربوة ما تزال في المدينة بقايا بقايا منها.

كان انطباعي الأول عن المدينة هو الشعور بالألفة فيها والراحة، ولفت انتباهي بناء أهلها التقليدي ولهجتهم النضرة، فقد بتّ في منزلٍ تقليدي مبني بالطين بشكل رشيق ومميز، منزل مريح وأهله كرام وله سقف تامشكطي تقليدي، حيث يبني أهل تامشكط سقوف منازلهم الطينية القديمة بخلاصات من نباتهم وطينهم ويمنحونها بعضًا من روحهم البهية، لتكون النتيجة بهاءٌ في بهاءٍ.

بدأنا في الصباح التخطيط لاستكشاف المناطق المجاورة لتامشكط، ومن المقترحات التي أسعدتني زيارة منطقة النّوداشْ، أو موقع مدينة أوداغست، حيث اكتشفت أن الموقع لا يبعد عنا سوى 40 كلم. أبهجني الأمر وأحزنني في نفس الحين، حيث إنني ورغم علمي بوجود المكان وأهميته لم أكن على دراية واضحة بأنه في تلك الرقعة بالتحديد، وهذا تقصير مخل، واستحضرت في ذهني فكرةً أتبناها، مفادها أن أحد أسباب المجهولية التي يعاني منها بلدنا عربيًا هو كسلنا في التعريف به أو التعريف بكل تفاصيله، وأنه يكتنز الكثير من الجمال والقصص التي تستحق أن تروى، فموريتانيا بلدٌ ثري بالتقاليد والثقافات والأعراق، ولسكانها تاريخٌ طويل ومتعدد المراحل وقد شكل تركيبتها البشرية الحالية، ورغم ذلك ما تزال مجهولةً لدى الكثير من العرب وحتى من جيرانها القريبين منها،  ومن يَعلَم عنها شيئًا تكون معلوماتُه عنها مخلوطة ببعض الغرائبية والكثير من الصور النمطية، وحسب ظني أن حال موريتانيا هذا ينعكس على حال المواقع التاريخية فيها والمدن القديمة وتاريخها.

رافقنا في جولتنا التي قمنا بها بعد قيلولة رائقة دليل من سكان المدينة، عارفٍ بالمكان وتفاصيله ويحفظ منعرجاته ويستدل فيه بالأشجار وتشكلات الطبيعة. مثلًا، لو سألناه كم بعدنا عن تامشكط يخبرنا بدقة، وحين ينظر رفيق سفرنا الثالث الذي يسوق السيارة لما يحسبه العداد نجد تطابقًا مذهلًا.

مررنا بأماكن متعددة، ترسم لوحة بهيةً من الجمال. وحسب دليلنا، جمال المكان يتوهج أكثر في فصل الخريف بكثافة الغطاء النباتي والمستنقعات وانتعاش البحيرات. وفي نهاية جولتنا توقفنا لاستكشاف موقع النوداشْ أو آثار مدينة  أوداغست، المكان الأثري المهم، والذي يحكي قصة مدينة عظيمة اندثرت، وكان يحيط بالآثار المتبقية سياج يحميها من البطش، وفعلًا لو تركت لخيالك العنان لرسم لك لوحة تسرد قصة معيش ناس تلك المدينة.

يحوي الموقع بقايا ما يُظنُ أنه مسجد المدينة الرئيسي، وسكن الحاكم وسوق المدينة، وكان أول من  انتبه إلى الموقع هو ضابط فرنسي، أراد أن يتعرف على الموقع واعتقد أنه بقايا أوداغستْ، ثم بعد ذلك قام إداري فرنسي اسمه بيير لافارك، سنة 1940، بكتابة مقال حول عاصمة صنهاجة، وكان العالم الفرنسي تيدور مونو قد تعرف على المكان حيث زاره سنة 1934.

ثم بعد ذلك، قام رايمون موني، وهو مؤرخ وأثري فرنسي، بأول اسْتبارٍ أثري بالتعاون مع عالم آثار بولوني، حيث قاما بحفريات عام 1949، وخلصا إلى أن هذا الموقع هو فعلًا موقع أوداغوسْت الوسيطة، وحَدَثَ حفرٌ واستكشاف من طرف باحثين فرنسيين، بداية الستينيات. وقد تحدّث الرئيس الموريتاني الأول المختار ولد داده في مذكّراته التي تحمل عنوان: موريتانيا على درب التحديات، عن تلك التجربة وأهمية الموقع، حيث قال: "شهد هذا الموقع منذ عام 1960 حفرياتٍ أركيولوجيةً دوريةً تحت إشراف علماء فرنسيين هم: جان دفيس من جامعة باريس، وسرج ودنيز روبير من جامعة داكار. وتم الكشف في هذا الموقع عن المدينة القديمة المطمورة آوداغست (أو تاكَداوست) التي كانت في فترة من القرون الوسطى (من القرن الـ9 إلى القرن الـ11) عاصمة ممالك صنهاجة (لَمْتونه ومسّوفه واكَداله.. إلخ) ثم عاصمة زناتة"، وتجدر الإشارة إلى أن الحفر تواصل حتى منتصف السبعينيات، وانتهى وقتها على أمل تجدد الحفر والبحث لكن كانت تلك نهاية الاستكشاف.

في حديث مع المدير العام المساعد للمكتب الوطني للسياحة، محمد الأمين ولد سيدينا، أخبرني أن موقع النوداش أو أوداغست، يحتاج إلى: "المزيد من الحفر، فالحفر الذي بدأ قبل سنوات لم يكتمل، والمطمور من المدينة أكثر بكثير من الذي كَشف عنه الحفر، فالمدينة ما تزال تحتاج للمزيد من الحفريات لاكتشافها أكثر، فحسب المتخصصين في مجال الأركيولوجيا، الظاهر من المدينة لا يصل إلى خمسين في المئة من المدينة الأصلية، بل البعض يقول إنه أقل من ثلاثين في المئة".

وأوضح أن المدينة أو الموقع الأثري يحتاج أيضًا إلى: "الحماية ولمحافظ، وأن يبنى فيه متحف توضع فيه الاكتشافات الأثرية التي توجد من حين لآخر، ويعاد لمتحف الموقع  من الجامعات الفرنسية والمتحف الوطني في نواكشوط بعض القطع الأثرية التي أخذت من الموقع، وكذلك محاولة دعم السكان للبقاء بقرب الموقع، فنتيجةً لهجرة أهل المنطقة أصبحت المنطقة مكشوفة، وإن لم يكن بجانبها مدينة بها سكان لن تكون محجّةً لأي باحثين أو سائحين".

وأكد لي المتحدث أن موريتانيا تحتاج إلى التعريف أكثر وليس الموقع فقط، حيث قال إن: "موريتانيا دولة غير مشهورة عربيًا ولا دوليًا، وتحتاج إلى التعريف بها أكثر، ونحن في المكتب الوطني للسياحة عملنا على التعريف بالبلد، خصوصًا في بعض المناطق الأوروبية، وأصبح هناك تقدم في هذا المجال، ولو طفيفًا، نتيجة للإمكانيات التي نعمل بها، لكن أعتقد أن الدولة والنخب عليهم العمل أكثر على المشاركة في التعريف بالبلد عربيًا ودوليا، من خلال المنتديات والمشاركة في الصالونات والأحداث التي تحدث في العالم، وكذلك الوسائط الرخيصة أصبحت أسهل للتعريف بالبلدان"، خالصًا إلى أن: "هذا يتطلب جهدًا بدنيا وماديًا وفكريًا كبيرًا من أجل التعريف ببلدٍ مثلنا، وأبسط الطرق هو القيام بحملات للتعريف بالبلد عبر قنوات التليفزيون في العالم وهذا ينقصنا وليس لموقع أوداغست وحده بل لكل مواقع البلد، فأوداغست ليست استثناء، وعدم شهرتها مثل عدم شهرة الدولة".

 

 

فما هي حكاية أوداغستْ؟ 

 

تعد أوداغستْ من أهم حواضر المنطقة في الحقبة الوسيطة، وكانت مدينةً تتخذ موقعًا متميزًا على طرق القوافل بين جنوب المغرب وإمبراطورية غانا التي كانت عاصمتها كُمْبِي صالحْ، وهي قريبةٌ من مدينة تَمْبَدْغَهْ شرق موريتانيا حاليًا.

لفتت أوداغست انتباه المصادر المشرقية والمغربية على حد السواء، وجاء أول ذكر لها من خلال اليعقوبي في القرن التاسع الميلادي، حيث وصفها قائلًا: "هو واد عامر فيه المنازل"، وبعد ذلك ابن حوقل الذي زار المدينة في القرن العاشر ميلادي، والذي قال إنها: "مدينة لطيفة أشبه بلاد الله بمكة وبمدينة الجزروان في بلد الجوزجان من بلاد خراسان، لأنها بها بين جبلين ذات شعاب"، وتحدث عنها كذلك البكري في القرن العاشر، قائلًا: "هي مدينة كبيرة آهلة رملية يطلّ عليها جبل كبير موات لا ينبت شيئًا، بها جامع ومساجد كثيرة آهلة في جميعها المعلّمون للقرآن، وحولها بساتين النخل، و يزرعون فيها القمح بالفؤوس ويسقى بالدلاء يأكله ملوكهم وأهل اليسار منهم، وسائر أهلها يأكلون الذرّة، والمقاثي تجود عندهم. وبها شجيرات‏ تين يسيرة ودوال يسيرة أيضا، وبها جنان حناء لها غلّة كبيرة، وبها آبار عذبة والغنم والبقر أكثر شي‏ء عندهم، يشترى بالمثقال الواحد عشرة أكبش وأكثر. وعسلها أيضًا كثير يأتيها من بلاد السودان. وهم أرباب نِعم جزيلة وأموال جليلة، وسوقها عامرة الدهر كلّه لا يسمع الرجل فيها كلام جليسه لكثرة جمعه وضوضاء أهله".

وفي كتابه "صحراء المثلمين وعلاقاتها بشمال وغرب إفريقيا"، قال الدكتور الناني ولد الحسين إن الدراسات الأثرية التي قيم بها في المدينة تؤكد أن: "المدينة مرت بثلاث مراحل متمايزة، من حيث شكل المباني ومادة بنائها، وذلك أثناء تطورها العمراني".

وقد اعتمد سكانها في المرحلة الأولى على أغصان الأشجار والحشائش في تشييد منازلهم الخاصة، أما في المرحلة الثانية فكان الاعتماد على اللبن الطيني الذي يجفَّفُ بواسطة أشعة الشمس بعد قولبته، وكان ذلك الخيار هو الأنسب لمناخ المنطقة، فيما اعتمد السكان في المرحلة الثالثة على الحجارة كوسيلة للبناء، وقد عبّر ذلك عن مستوى الازدهار الاقتصادي الذي عرفته المنطقة، وكان ذلك الازدهار العمراني من تأثيرات الجاليات العربية والشمال إفريقية القاطنة في المدينة.

وحسب المصادر، كان سكان المدينة، حتى منتصف القرن العاشر الميلادي، يتشكلون في الغالب من الصنهاجين. إلا أن ذلك الحال تغير مع سقوط دولة الملثمين في الصحراء التي كانت عاصمتها أوداغستْ، وذلك في نهاية القرن العاشر، حيث أصبح سكانها في الغالب من زناتة إفريقية، الذين أتوها بعد احتلال مملكة غانا عسكريًا لها. وبحسب الناني ولد الحسين، الذي تحدث كذلك في كتابه سالف الذكر عن أسباب سقوط مملكة أوداغستْ: "إذا كانت مصادرنا غير متفقة حول آخر ملك للملثمين والفترة التي انهارت خلالها مملكتهم، فإنها أيضًا مختلفة حول أسباب ذلك الانهيار، فابن أبي زرع يرى أن آخر ملوكهم هو تميم بن الأثير (تلين) الذي ذكر أن أشياخ صنهاجة قتلوه سنة 360 هجرية، فقال عنه: (فقتلوه وافترق أمرهم.. مدةً من مائة وعشرين سنة)".

حكاية مدينة وموقع أوداغستْ تتكرر في شتى بقاع موريتانيا، البلد المترامي الأطراف، وهو ما يجعل السفر فيه صعبًا، فبين كل موقعٍ ومدينة مئات الكيلومترات والطرق صعبة وقد لا تكون معبدة أصلًا في بعض الأحيان، لكن رغم ذلك هناك ما يستحق العناء، وقد جال في ذهني وأنا قافلٌ من رحلتي إلى أوداغستْ السفر إلى موقع كُمْبِي صالحْ عاصمة مملكة غانا.

 

احمد ولد جدو

 

ثلاثاء, 21/01/2025 - 12:52