زيارة الوزير الأول السنغالي لموريتانيا: تعزيز الشراكة الاستراتيجية وميلاد محور إقليمي جديد

تحمل زيارة الوزير الأول السنغالي عثمان سونكو لموريتانيا، التي جرت بين 12 و14 يناير 2025، دلالات استراتيجية هامة تعكس رغبة البلدين في تعزيز شراكتهما الثنائية وتحقيق تكامل إقليمي مستدام. تأتي هذه الزيارة في ظل سياق إقليمي متأزم بسبب الانقلابات العسكرية وتراجع الأطر الجماعية التقليدية، مثل مجموعة دول الساحل الخمس، ما يدفع الدول إلى إعادة ترتيب تحالفاتها الثنائية لتجاوز التحديات الأمنية والاقتصادية المشتركة.
أسفرت هذه الزيارة عن توقيع اتفاقات محورية شملت الطاقة والنقل والصيد البحري والبنية التحتية، بالإضافة إلى تعزيز التعاون الأمني من خلال إنشاء إطار عملياتي مشترك لمواجهة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود. ويمثل مشروع "السلحفاة أحمييم الكبير" في قطاع الطاقة، وجسر روصو في النقل، نموذجين للتعاون الذي يعزز التنمية الاقتصادية ويربط البلدين في شبكة مصالح استراتيجية.
من جهة أخرى، تعكس الزيارة حاجة النظام السنغالي الجديد بقيادة عثمان سونكو إلى بناء تحالفات إقليمية تدعم استراتيجياته الداخلية وتساعد في تحقيق وعوده الانتخابية. وفي المقابل، تستفيد موريتانيا من هذا التقارب للتخفيف من عزلتها النسبية واستعادة دورها الإقليمي، خاصة في ظل تصاعد التنافس بين الجزائر والمغرب.
ليست الزيارة إذا تأكيدا على قوة العلاقة بين البلدين، بل إنها تمهد الطريق لظهور محور موريتاني-سنغالي جديد يركز على التنمية المستدامة والتكامل الإقليمي. وإذا ما استثمر هذا التعاون بفعالية، فإنه قد يعيد تعريف ديناميكيات التعاون في غرب إفريقيا، ويقدم نموذجا مبتكرا للتكامل الإقليمي الذي يعالج تحديات المنطقة ويحّلها إلى فرص للنمو والاستقرار.

 

 

تقديم:

في ظل سياق إقليمي مضطرب وتحولات جيوسياسية متسارعة في منطقة الساحل وغرب إفريقيا، قام الوزير الأول السنغالي عثمان سونكو بزيارة عمل وصداقة إلى موريتانيا خلال الفترة من 12 إلى 14 يناير 2025، بدعوة من نظيره الموريتاني المختار ولد أجاي. تأتي هذه الزيارة كجزء من ديناميكية متجددة للعلاقات الثنائية بين البلدين، اللذين تربطهما علاقات تاريخية وجغرافية وثقافية عميقة.
تميزت الزيارة بمشاركة وفد سنغالي رفيع المستوى، وعُقدت خلالها لقاءات ثنائية بين قادة البلدين، بالإضافة إلى محادثات موسعة تناولت القضايا الاستراتيجية ذات الاهتمام المشترك. كما توجت هذه الزيارة بعدد من الاتفاقات والإعلانات، أبرزها تعزيز التعاون في مجالات الطاقة، والنقل، والصيد البحري، والأمن، فضلاً عن الاتفاق على دورية انعقاد اللجنة الكبرى المشتركة للتعاون.

 

1.    أبعاد ودلالات الزيارة:

تأتي هذه الزيارة في سياق إقليمي بالغ التعقيد، حيث تمر منطقة الساحل وغرب إفريقيا بتحولات غير مسبوقة نتيجة الأزمات الأمنية والسياسية المتزايدة، بما فيها تفشي الانقلابات العسكرية وانهيار مجموعة دول الساحل الخمس وتراجع تأثير الدول الغربية وتنامي حضور قوى أخرى دولية وإقليمية. وهي تطورات تدفع بعض الدول إلى إعادة النظر في تحالفاتها الإقليمية وتعزيز التعاون الثنائي لمعالجة التحديات المشتركة.
ضمن هذا الاطار، تنظر موريتانيا، التي تسعى لتجاوز عزلتها النسبية بعد انهيار مجموعة الخمس، إلى السنغال باعتبارها شريكا استراتيجيا يمكن أن يعزز دورها الإقليمي، خاصة أنها تعد واحدة من أكثر الدول استقرارا في غرب إفريقيا. كما يعكس هذا التقارب من جهة أخرى، رغبة النظام السنغالي الجديد بقيادة عثمان سونكو في البحث عن شركاء إقليميين يمكن أن يدعموا استراتيجيته الداخلية والخارجية.

 

2.    تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين:

 

شهدت الزيارة توقيع عدد من الاتفاقات التي تمثل انتقالا في طبيعة العلاقة بين البلدين من تعاون تقليدي إلى شراكة استراتيجية. تتمثل أبرز هذه الاتفاقات في تعزيز التعاون في قطاع الطاقة من خلال مشروع "السلحفاة أحمييم الكبير"، الذي يعد نموذجا للتكامل الاقتصادي في استغلال الموارد الطبيعية. كما تم الاتفاق على دعم مشاريع البنية التحتية الهامة مثل جسر روصو، الذي يشكل حلقة وصل اقتصادية واجتماعية حيوية بين البلدين.
وكان واضحا بالنسبة للطرفين من خلال البيان الختامي للزيارة، أن هذه المشروعات لا تعزز فقط التنمية الاقتصادية، بل إنها تقدم أيضا نموذجا للتكامل الإقليمي القائم على المصالح المشتركة، علاوة على ذلك فإن تركيز البلدين على تعزيز المحتوى المحلي وتطوير سلاسل القيمة، عكس رؤية اقتصادية مستدامة تركز على الاستفادة القصوى من الموارد المشتركة.

 

3.    النظام السنغالي الجديد: سياق داخلي وإقليمي:

 

من جانبه، يواجه النظام السنغالي الجديد بقيادة عثمان سونكو ورئيس بلاده، تحديات داخلية تتمثل في ضغوط المعارضة وبقايا النظام السابق، بالإضافة إلى توقعات ناخبيه بتنفيذ وعود انتخابية طموحة. ومن الواضح أن زيارة صونكو لنواكشوط تمثل خطوة متقدمة لتوسيع قاعدة التحالفات الإقليمية، مما يظهر النظام الجديد كلاعب إقليمي قادر على تحقيق مكاسب استراتيجية تساهم في تعزيز شرعيته الداخلية.
من جهة أخرى، يتيح هذا التعاون فرصة للنظام السنغالي للاستفادة من مشروعات مشتركة ذات تأثير مباشر على الوضع الاقتصادي الداخلي، مثل تعزيز البنية التحتية وتوفير فرص عمل في مجالات الطاقة والنقل والصيد، إضافة إلى طمأنة عشرات آلاف السنغاليين المتواجدين في موريتانيا على أن أوضاع إقامتهم ستتحسن من خلال اتفاقيات جديدة عجزت عنها الحكومات السابقة.

 

4.    التعاون الأمني: أولوية استراتيجية:

أحد أبرز مخرجات الزيارة كان الاتفاق على تعزيز التعاون الأمني بين البلدين في مواجهة التحديات المشتركة، مثل الإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة غير النظامية. وقد مثل إنشاء إطار عملياتي مشترك لمواجهة هذه التحديات خطوة استراتيجية متقدمة في هذا الاتجاه تظهر إدراكا متبادلا للتهديدات الأمنية العابرة للحدود، وربما لضرورة توحيد وجهات النظر في مواجهة شركاء دوليين في هذه المجالات.
كما يعكس التعاون الأمني أيضا تحولا في التفكير الإقليمي نحو حلول ثنائية أكثر فعالية، في ظل فشل العديد من المبادرات الإقليمية الجماعية، مثل مجموعة دول الساحل الخمس واتحاد المغرب العربي والصعوبات القوية التي تواجهها المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا. وفي نفس الوقت يعيد هذا التحرك تعريف ديناميكيات الأمن الإقليمي، مع التركيز على التنسيق المشترك بدلا من الاعتماد على التدخلات الخارجية.

 

5.    نحو محور موريتاني-سنغالي جديد:

 

يمكن لهذا التطور في العلاقات بين موريتانيا والسنغال، أن يمهد الطريق لظهور محور جديد في غرب إفريقيا، ينظر بعمق إلى البدائل المتاحة ويستخلص الدروس من الماضي المرير ليقطع مع تجارب تضييع الفرص والانجراف في مشاريع بعض القوى الدولية ووكلائها الاقليميين، ويركز بدلا من ذلك على التنمية الاقتصادية والتكامل الإقليمي. ويمكن لمثل هذا المحور أن يشكل نموذجا لتعاون مستدام في منطقة تعاني من تحديات هيكلية وأزمات متكررة.
بالإضافة إلى ذلك، من شأن هذا المحور أن يعزز من قدرة البلدين على لعب دور إقليمي متوازن، خاصة في ظل طغيان التنافس بين الجزائر والمغرب وتوجه الحكومات المجاورة الأخرى إلى تشكيل تنظيمها الخاص (كونفدرالية دول الساحل) وانتهاج خط راديكالي يعلي من شأن الأيديولوجية المناهضة للاستعمار الجديد. كما أن موريتانيا بشكل خاص، يمكنها من خلال هذا التعاون، أن تحقق نوعا من الاستقلالية الاستراتيجية التي تمكنها من التعامل مع القوى الإقليمية والدولية دون الانحياز لأي طرف.

 

يمكن النظر إذا إلى زيارة الوزير الأول السنغالي عثمان سونكو لموريتانيا، على أنها علامة فارقة في مسار العلاقات بين البلدين، حيث نجحت في فتح آفاق جديدة لشراكة استراتيجية متعددة الأبعاد. ففي ظل التحولات الإقليمية الراهنة، تبرز هذه الزيارة كمحاولة جادة لإعادة صياغة الأولويات وتحقيق التكامل الإقليمي، بعيدا عن الهيمنة الخارجية أو الصراعات العقيمة التي أضعفت المنطقة لعقود.
ويعتبر التعاون الذي تم الاتفاق عليه خلال الزيارة، سواء في مجالات الطاقة أو البنية التحتية أو الأمن، حجر الزاوية في بناء محور موريتاني-سنغالي جديد يركز على المصالح المشتركة والتنمية المستدامة. وهو محور لا يقتصر على تجاوز التحديات الأمنية والاقتصادية المباشرة، بل يسعى أيضا لتقديم نموذج مختلف للتكامل الإقليمي، يعزز من قدرة البلدين على مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية.
وفي سياق يعاني من انهيار منظومات إقليمية تقليدية وظهور تكتلات جديدة، يمكن لهذا التعاون الثنائي أن يعيد لموريتانيا والسنغال موقعهما المحوري، ويعزز من استقلالية قراراتهما السياسية. وإذا ما استمرت إرادة التنفيذ الجاد لمخرجات هذه الزيارة، فإننا قد نشهد ميلاد نموذج فريد للتعاون في غرب إفريقيا، يسهم في تحويل التحديات المشتركة إلى فرص تنموية تعود بالنفع على شعبي البلدين، وتضع أسسا لاستقرار دائم في منطقة الساحل وغرب إفريقيا.

خميس, 16/01/2025 - 07:58