التراجمة المسلمون في السنغال خلال العهد الاستعماري، 1850-1920:
أنماط من سفارة المعرفة والسلطة في حوض نهر السنغال الأدنى والأوسط
يقدم هذا الكتاب قراءة نقدية للأدوار التي اضطلع بها التراجمة، إمالزن، في السياق الاستعماري، ويفحص بعمق تشكل هوية هجين لدى هؤلاء، وعموم المسلمين من سكان مدينة سان لويس. فقد راوحوا بين العمل مع الإدارة الفرنسية وخدمة مشروعها الاستعماري، والحفاظ، في الوقت ذاته، على هويتهم الإسلامية، بل وطدوا من تلك الهوية؛ أي شكلوا داخل "دار الكفر" "داراً للإسلام". يتتبع السيراليوني تابو مبايو، أستاذ التاريخ بجامعة ويست فيرجينيا الأمريكية، مسار أبرز هؤلاء التراجمة (همَّـتْ نجايْ آنْ، وبو/ ابن المقداد سك، وابنه محمدو، وفارا بيرام لو) وذوي الرتب الدنيا منهم، فاحصا خلفياتهم الاجتماعية المتنوعة ومساراتهم التعليمية في محاظر الضفة الشمالية لنهر السنغال، ومبرزا تضلعهم من العلوم الشرعية وإتقانهم اللغة العربية التي كانت لغة رسمية للإدارة الاستعمارية في سان لويس، وعلاقاتهم الوطيدة بشتى النخب السياسية والعلمية في المنطقة.
يأخذ الكاتب القارئ في جينيالوجيا تشكل قسم الترجمة داخل الإدارة الاستعمارية، بدءا بمدرسة الرهائن، ثم مدرسة أبناء الشيوخ والتراجمة على يد فيديرب، مع توسع الإدارة الاستعمارية انطلاقا من مدينة سان لويس. ويقتنص الكتاب اللحظة التاريخية الحاسمة التي شهدت ميلاد هذا القسم مع التحولات التجارية والزراعية في المنطقة وترسخ قبضة الفرنسيين في السنغال على يد الحاكم لويس فيديرب، وسعيهم للوصول إلى نهر النيجر، وإعادتهم التفاوض على شروط المعاهدات التجارية الناظمة للتبادل في المحطات النهرية. ويرسم الكتاب صورة شاملة لمدينة سان لويس وازدهارها التجاري والثقافي ونشأة نخبة مسلمة داخل هذا المركز الاستعماري الساحلي حافظت على هويتها الإسلامية وخصوصيتها الثقافية وزاحمت النخب الفرنسية والخلاسية على النفوذ ودافعت عن حقوقها المدنية والقانونية، كما يتجلى ذلك في إنشاء الإدارة الاستعمارية محكمة إسلامية تتولى النظر في النزاعات الخاصة بهذه المجموعة. ويستعرض الكتاب الأدوار البارزة والشائكة التي اضطلع بها التراجمة في حوض نهر السنغال الأدنى والأوسط بدءا بالمفاوضات على إنشاء السكة الحديدية بين سان لويس وداكار عبر مملكة كايور، وفي ظل رفض ملكها (دامل) لات ديور للأمر، والمواجهة المباشرة بين القوات الاستعمارية والحاج عمر تال في فوتا تورو، واحتلال والو ثم كايور، وإنهاء سيطرة الترارزة ومغارمهم على الأراضي الواقعة جنوب النهر، وانتهاء بغزو موريتانيا واحتلالها.
يستأنف الكاتب مقولات ما بعد الكولونيالية ودراسات التابع عن الهجانة وأسلحة الضعفاء، ليؤكد فاعلية المغلوب أو مشيئته agency ولمساته البارزة في التفاوض على مصيره ونجاحه في تعديل مسار الأحداث والحفاظ على هويته، بل وتأثيره في هوية الآخر الغالب وما يرسم من سياسات وينفذ من خطط، رغم اختلال موازين القوة وميلان الكفة لصالح الأخير. يرمي الكاتب وراءه الأدبيات المتداولة ذات المرجعية الوطنية عن التراجمة وأمثالهم من وسطاء الحقبة الاستعمارية، ويتكئ على الدراسات المماثلة عن الوسطاء والتراجمة في أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا، ليعيد بناء حيوات شخوصه وينظر لها من زوايا جديدة، منقبا في ثنايا المهمات التي اضطلعوا بها رسلا ومساعدين عسكريين وأدلاء لبعثات الاستكشاف ومصادر للمعرفة وناشرين لها ومضيافين دبلوماسيين للأمراء والوجهاء وحلقات وصل مع عامة الأفارقة.
يخصص الكاتب فصله الأخير للاحتلال الفرنسي لموريتانيا، والدور الذي قام به محمدو بو المقداد الابن ذي العلاقات الوطيدة بالنخب السياسية والعلمية في موريتانيا والعارف بتفاصيل المشهد الموريتاني وبثقافة أهله. كما يشتبك مع التقاطعات الدقيقة للمعرفة الكولونيالية (لو شاتلييه وبول مارتي وروبير آرنو) مع التوسع الاستعماري (كوبولاني وغورو). كما يعرج الكتاب على العلاقات التي ربطت الفرنسيين ببعض الشيوخ الموريتانيين (باب ولد الشيخ سيديا والشيخ سعد بوه) وما كان لهما من لمسات حاسمة غداة التوغل الفرنسي في البلاد.
بابا ولد حرمة