ملحمة الذباب الأزرق

يقينا أنَّ الأزرق به ثُلَّةٌ من أصحاب الرَّأي والكُتَّاب، وكثير من السِّباب والذُّباب! .. ذباب بالأبيض والأسود، ذباب مُلوَّن وآخر مُبرقش.
وبما أنِّي كائن نهاري، ارتفعَ حظِّي بالتفقُّه في مَعاشر الذُّباب، في حالاتها وتحوُّلاتها، كُلّما استفاقت مع خُيوط الفجر مُزاوجَة بين اللَّعق والبصق.

وضعتُ رجلي مُحاذية جانبَ الأزرق الأيمن، فحاصرني الأزيز، الذبّاب دائم الأزيز لأنه لا يملك مهارة الانصات، ألقيتُ السَّلام على جَمْعِ الأقوام من ذوات الجناحين واللسانين والشفتين والذِّقن المُضاعف وحتى الوجهين.

عن يمين الجدار ذبابة منتفخة بالأهواء، بوجه مُخطط، يحْملُ آثار جروح من سالف تشرُّد نفسي، ، تتوارى وراء ظل احراج علَّه يسترها، تعشق الأزرق وكيف لا؟، فلم يكن لها من مَنشَئ قبله!.

تقدمتُ خطوات، باتجاه ذبابة مترهِّلة، ترفع لافتة مرقَّعة ، تعسُّ كمًّا من اليرقات البرمة، تدعو بنفس الكلمات المملة للإخلاد إلى التَّفاهة،.. وغير بعيد منها ذبابة بائسة ترفع سُؤْلَها إلى ربِّها أن يرفع عنها ضر الذبابة المترهِّلة، المُنزرعة في الشَّتيمة،..
تابعتُ سيري،.. الطنين في تصاعدٍ مُلوّث،.. على الناصية المقابلة، هَرَاطِقة من كبار الذُّباب، بذهنية شرهة، رهط يُسمِعون مَقاماتٍ من نشاز الكلام، ترسم شكل الوقت، وقف فيهم خطيب قبيح ملحاح، عاصر كل القبح المتاح، تخصَّص في تصريف فعل "قبُحَ" في كل الأزمنة حتى غدا القبح فرض عين.

تابعتُ الخُطى لأتجاوز للرصيف المقابل بسلام،.. شدَّني أزيزٌ مُتصاعد، حشدٌ من ذباب هُلاميّ شابّ، رهينة غَدٍ لم يأتِ.. طيفٌ كلما رَاقصَ لونا توشَّحه، يتخاشنُ بينه بمنشِّطات تحقيرية، قلبي معهم، إنهم يُعانون ارتجاجًا في الذَّات بعد أنْ سقطوا من فوق الحُلم وارتطموا بالعدم.

تركتهم وصخبهم، انعطفتُ من دونهم، حيث المكب الأزرق يزكم الأنف، مُماحكات، خصام، شظايا عنصرية حادة، أكياس جهوية عتيدة، متعفنة، ترقص صبْية الدُّود على حوافها،.. حاولتُ ألا أتعثر في النِّفايات، فالنِّفايات موائد اشتهاء للذباب المتشرد،.. لمحتُ وجها أعرفه، كان منشغلا بالمقارعة والمصارعة، ثم خفض صوته فجأة وهمس لذبابة من ملَّته تغزلُ قُماشا شفافا خيطًا خيطًا، أن تفصِّل منه رداءً على مقاسهما، قدره أن يظلَّ عاريًّا.

أسرعتُ،.. جرَّبتُ قفْزَ غزالٍ متحفِّز يسارًا، فقد يكون اليسار أنظف، وجدتني وجها لوجه مع شيخ ذباب أعور، أحاديّ النظرة، مُراوغ، بلسان متهالكٍ موديل حزب الشَّعب، يجلس منذ عقود على دكَّة انتهاز الأماني يُمارس فنَّ اللعق،.. وجدته يرمّم آخر نسخة مُكررة من ذاته،
وينسج أطواقا بحجم عائلي من سُلالات التَّعصب القبلي، وعلى يسارِ يساره يتكوَّمُ كهل ذباب مُتثاقف، إعادة تصنيع من بقايا "الهياكل"، يكفكفُ رشح جرحه النَّرجسي وفق مشيئة الطقس، مَلَّ لعبة الأضداد والمُترادفات، وأضناهُ حلب ضَرعٍ من حَجَر، فانشغل بقولبة المرويات الزرقاء على خواء.. وعلى يسار يسارهما جمع من شباب الذباب يتقاذف الوقيعة بالدَّور.

على شاطئ فرعي للأزرق، أبصرتُ غادةَ ذبابٍ مسترخية، تجمَّدت دماء حيائها منذ مُدة، تتبدَّى أوقحَ من رفيقتها التي تُجاهر بغباء أصيل، وتتمخَّض لتزيد معشر الذباب،.. المهم، أرسلتْ رِجلاً فوق رجل في إغراء، ورَمَتْ بغواية آخر قطعة من ملابس لسانها الداخلية،.. نَفَسٌ جريءٌ من التَّعري اللَّفظي لتسريَّة المكبوتات التاريخية.

في الطريق صرتُ أهشُّ عن ناظري لكثافة الذُّباب، قلتُ شدِّي رجلك يا دهماء قبل أن تتقيئي،... لكن بغتة، وفي غياهب كهف قصيٍّ من بسيطة النسيان الوظيفي، دنَى من ذهني طنين مألوف، استجمعتُ بعض تفاصيل الذاكرة؟، الصَّوت لكهل ذباب من علية الذباب، أومأتُ، فعلا هوَّ، مُكفهرّ بِسَمْتِ يَعسوب غَضُوب، ناضج الأنا، منحدر من الدور العلوي للثرثرة، نديُّ الثغر يلعق أطراف كل الأكواب بلسان سهل التَّثني، الظاهر أنَّه نَهمٌ لتردٍّ بلا مَخْتَمٍ.. والطريف أنه يوقِّع بمؤخرته على هذيانه، نقطة سوداء هنا، على نقطة سوداء هناك..بقعة من بَولْ الذّنبان.
حييتُه فهو معرفة قديمة،.. لم يُعرني مسمعاً، كان مُنشغلا يستذئب على أفكاره، وقد عرفته حتى وقت قصير مُستنعِجا،.. هو ذبابة رفيعة أوصدت عنها الأيام جفن الاهتمام، تَسْتَلْفِتُ الضَّوء في يأسٍ، والضّوء يَنحسر باصرار، استغربتُ أنْ قد تضاءل حجمه حتى أصبح مجرد توليفة من عظام وجلد وحقد،... 

انحنيتُ على طرف حفرة زرقاء من طينٍ لازبٍ، شاهدتُ جماهير ذُبابٍ تغوص منحدرة خلف صعلوك ذباب فريد، مُعْتِم الرأس بلحية تيس، يتقمص وَرَعًا غامزًا، لامزا، مستخِفًّا، يَحبك من عُقد الغلِّ بعض الصُّور القاتمة، .. إيييه، ذلك حسبه من الأوصاف.

تمهَّلتُ جنب ذبابة مراهقة، فارغة، من فئة cv wnbk تمتطي عن جهالة صهوة بعض ضواري التشنيع، تغمسُ التعليقات في منقوع التشهير غير مدركة، تحمل شرخا في شخصية لم يكتمل بناء أساسها،.. جزعتُ منها!، حيث تبدو عليها أعراض التوثب المُبكِّر للشر.. ماذا لو اشتدَّ عودها؟

ضجرتُ من الفضاء الأزرق قلتُ أتلهَّى!.. تنحَّيتُ جانبا وضربتُ -تطوُّعا- سُرادِق عزاءٍ للأخلاق التي ماتت اغترابا، خصوصًا لبعضٍ منها قُتل تحت بند "جريمة شرف"، بعد اشتباه في ممارستها البغاء السّياسي، وكان اتهامها سهلا فشهودها من غير أهلها،.. 

الذُّباب ملة واحدة، يا ضجر!،.. أليس الذباب ناقلا جيدا للأمراض؟

ثلاثاء, 06/10/2020 - 16:59