غربي باب "الرحمة"، على بعد أميال من موقع آخر معركة خاضها مع ورفقاؤه، يستلقي فتى قمحي البشرة، بعد أن كان أبيضها، يبتسم للأرض ويتلمس مواضع من جسده رطبها عطر لتوه انسكب من حيث لا يدري.
آذنه إذْ ذاك خيط رفيع ينساب من جسده.. يرنو إلى ما بين جنبات خيمة والدته، القابعة في آخر المخيم على مرمى البصر، ثم يرتفع الخيط نحو الأفق كسنابل قمح تستعير هوية طيف هواء دافئ، اشتاق عبد الرحمن لبقائه أو مصاحبته؛ يدفئه حينا وحينا ينزل إلى قراره ليبقى لحظات في حضن أمٍ رآها ترتعد لا يدري أشوقا أم خوفا أم من شدة صقيع البرد.
وهو ما لم يكن. استعطف الفتى عبرته المنهكة منذ أعوام، فجاست خلال الحمى بحثا عن زادِ دمع تواكب به ارتعاش الخيمة والمُسنة ريثما تكتمل الفرحة بحضن ربما تكون المسافة بينه وبين التحقق يوم جوعٍ أو ليلة هدم.. فشلت المحاولة، وارتفعت سنبلة الهواء أكثر نحو الأفق. معها الفتى.
-----
بعد مسيرة راحة وطمأنينة، أمضاها نائما، سمع عبد الرحمن صوتا لا يشبه ما كان يسمع من أصوات قبل قليل، كأنه يناديه بـ"العبدلي"، ذاتُ الاسم الذي تكنيه به أمه، وهو أحب الأسماء إليه، التفت متثاقلا فسمع الترحيب من جنبات الأفق الممتد رحابةً وجلالا، ورأى آخران كأنهما يمهدان له الطريق، نحو منزل فخم كتب عليه أنه صاحبه.
أمر الفتى لوهلة عبراته أن تنساب، فائتمرت.
وعلى بعد مسافة تأمل وبرهة راحة؛ كان الفتى يجيب جملة أسئلة لضيوف لا يعرفهم، علموا من جوابه أنه كان موقنا.. تركوه يكمل يومه الأول في ضيافة نوم مختلف لا تعكره نزلات البرد ولا يشوشه نصب الجوع. ريثما يدنو اللقاء.
-يا عبد الله إن لك موعدا مع رفاقك، فهلم تشْهدْه. هكذا نودي.
ارتقى نحو بهو في أعلى قصر، سقفه، عذب يشبه سقف خيمة أمه، غير أنه لا تشقق فيه ولا حر ولا قر.. يطل القصر على بحر لتو شمسه أرادت الشروق والاطلاع ببطء على جمال الوافد الجديد.. حيته حبا وقصرت عنه تبجيلا، أشار بعصاه بعد الجلوس على أريكة تتماها بأشعة الشمس بأن يسمح للضيوف بالدخول.
-حناينك حبيبنا إن هنا خوارق لما كان من قبل عادات، وفيه ما تشتهيه الأنفس، ولك فيه ما تدعي.
-إذا فدلني على موطن اجتماع أهلي على سرر متقابلين، أشتاقهم فرادى وجماعة.
-نعم، ولا يخلف مانحك هذه المنن العهد، ولهذا دعيت وهم في شوق لك.
----
-أخبرنا ما فعل رفاقك، وكيف حال أهلنا.. ابتدره القوم بالسؤال، وهو ما يزال يتفحص الوجوه ويقبل جبين هذا ويد ذاك ويسير بين الصفوف مرحبا ومحتضنا..
-يا عبد الرحمن هيهات أن تقابل الكل في يوم واحد فهنا كل أهلك ومحبيك، تعال أخبرنا وبشرنا، خاطبه "يحيى" وهو في صدر المجلس رفقة رجال بيض الوجوه منهم يعرف وآخرون ليسوا من أهل حيه لكنهم من سيمى الوجوه ومواقع الجلوس؛ أفضل.
-يا شيخنا الحال كما تركت، مصابرة وصبر، وثبات ووفاء، والأقارب كما رأيت والأباعد كما عرفت، ولعلكم تستقبلون كل يوم شيبا وشبانا. غير أن ربك لا يخلف الموعد، وقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا هاهنا وحتما سيورث الأرض لعباده المتقين.
-صدقت فلزمت فظفرت، ووالله ما شيء أحب إلينا من العودة ثم العودة ثم العودة..
-وأنا منكم، أفلا حدثتني عن الحي هنا؟
-وأي حي؟
- "الفاضلة"، أنبئت عنها لِماما من قبل.
-هذه يا عبد الرحمن نزل مخصص لأهل غزة، فيه ينعمون وعلى أسرته يتكئون ومن لؤلئه يتحلون وفي أنهاره يسبحون، كأنه نفق غير باطنه كما ظاهره نور على نور وهناء على هناء ثم هو سامق لا منخفض ولا ضيق، تشرئب إليهم أعناق سكان الموطن هاهنا ويتمنون لو كانوا منهم، بهم يفاخر قادتنا الأولون وعليهم يثنون، ترى فيها كل معروف في الدنيا بالمعاناة معروفا بالنعيم.
وذلك، على أعلى التلك، مُقام أمك مع الصديقات المنعمات، إذا هي قدمت، زرها إن شئت وهي إن شاءت زارتك.