كيف ذلك؟ سأوضح… اقرؤوا رجاءا!
لو أن مسؤولينا استغلوا المال العام بشيئ من الذكاء، وببعض من الحس الوطني، كما يفعل جزء من نظرائهم في دول أخري في العالم لكان وضعنا أحسن!
إنه من شبه المؤكد بين كثير من الناس أن المال العام عندنا، وفي كثير من دول العالم الثالث، وربما إلي حدما في العالم كله يُدار بنية الإنتفاع الشخصي، والتكسب الفردي، وإن بدرجات متفاوتة. ولعل شيوع هذا السلوك، وتقبل الناس له يطغي أو يضعف في الدول حسب درجة وجود بعض المؤثرات القانونية والإعلامية والمجتمعية والدينية التي تقاومه، مثل : وضوح ودقة قوانين التسيير، وحضور وفاعلية الرقيب القانوني والإعلامي، وطبيعة عقلية المجتمع وتعامله مع أكلة المال العام، وأمانة المسير نفسه ومستوي عفته وقناعته وتدينه، إن كان له دين...إلخ. ولو نظرنا إلي ما يتوفر لدينا نحن كمجتمع، وكأفراد من هذه العوامل آنفة الذكر فإننا بحاجة إلي أن ندعو الله أن يُنْزل البركة في ذلك! وإلي حين استجابة الدعاء فإن لدي اقتراحا سأقدمه إلي كل مُسيِر لمال عام يعلم من نفسه أن لا طاقة له علي مسك يده عن أن تسبقه إلي طبق الميزانية، أو أن يوقف سيلان لعابه قبل أن يلعق من جرة عسلها، فأنصحه أن يكون ذكيا، ووطنيا في استغلاله لما يغفر به من مال الشعب، وأن يُقلد النموذج الذي سأذكر هنا عسي أن يجعل مَغْنمه أكثر فائدة عليه هو أولا، وأقل ضررا علي الناس ثانيا. ولربما أفاد منه الوطن، ثالثا!
لقد استوحيت فكرة الذكاء الوطني هذه منما شاهدت في بعض الدول التي سافرت إليها. فقد نزلت في بعض أسفاري في حي من مدينة توجد به مجموعة أبراج سكنية شاهقة يضم كل منها أكثر من عشرة طوابق، وهي جميلة وتحتها منتزهات وأسواق ومحلات خدمات مختلفة ومواقف سيارات، وتوجد بها مدارس ومستوصفات ... وغير ذلك. والشقق في هذه الأبراج تؤجر للسكان بأسعار مقبولة. وأهلها مرتاحون جدا. وقد علمت من أحدهم أن ملكية تلك العمارات تعود لصاحب سلطة في ذلك البلد، وأنه بناها باستخدام نفوذه والمال العام الذي يخضع لإمرته، وأنه يريد بهذا الإستثمار ضرب عصفورين أو ثلاثة بحجر واحد، فمن جهة يظهر وكأنه يعمر المدينة ويطورها، وأنه يحل المشاكل السكنية للمواطنين، وأن المدينة تزدهر في زمنه، وأنه يوفر مزيدا من فرص العمل ... إلي غير ذلك من الفوائد الكثيرة المرتبطة بهذا المشروع. ومن الجهة الأخري فهو إنما يسعي في واقع الأمر إلي أن يؤمن لنفسه دخلا ماليا مستمرا من إيجار هذه الأبراج يزداد به هو ثراءا، وتعلو به مكانته، وتعظم قدرته علي التأثير في بلده، وقد يغنيه مستقبلا عن مد يده إلي المال العام ويصبح آنذاك أمينا وورعا ينفق منما يملك ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر!
فما الذي يُضير مسيري المال العام عندنا، من مَّن يقال عنهم أنهم يستثمرونه في شراء العقارات غالية الثمن في الخارج، ويصرفونه في الإستهلاك اليومي المسرف وغير المفيد، وينفقونه علي اقتناء الكماليات الباهظة التكلفة عديمة المردودية ... ما الذي يمنعهم من أن يمتلكوا هذا النمط من الذكاء التسييري، ويستثمروا في بلدهم علي هذا المنوال؟ فما أحوجنا إلي مثل هذه العمارات السكنية، وما أحوجنا إلي مساحات خضراء مثلا، ومتنزهات، ولو بمقابل، وما أشد حاجتنا إلي أماكن خدمات بجودة ذات مصداقية، وما أحوجنا وما أحوجنا... فإنهم بهذا الذكاء الوطني! سيخلقون لأنفسهم، وفي بلدهم بيئة عمرانية وحضارية لائقة، و يوفرون وسائل حياة عصرية يسعدون بها، ويُسعدون غيرهم، علي الأقل في دنياهم، ولربما تشفع لهم هذه الحيلة أيضا في آخرتهم، إن استحضر أحدهم نية ارتكاب أخف الضررين، و برهن لربه علي إحساسه ببعض من الخشية بالغيب!
"ما ايموت لعجل أو لا تيبس اتادبت"
يمكنني أن أدل من هو معني بذلك علي الدولة والمدينة التي يوجد بها نموذج البنايات التي ذكرت حتي يستشير، صاحب المشروع إن شاء، فالدال علي الخير كفاعله!