
من المجمع عليه في مسيرة الحضارة ونماء الشعوب ضرورة العدالة وتحقيق الأمن وجودة التعليم.
والتعليم مفتاح بناء الأمم والشعوب وحجر الأساس في قيام الدول إنه مشروع مجتمعي واضح الرؤى يرتكز على فلسفة تربوية واضحة تنطلق من حاجات الأمة وتستجيب لمتطلباتها فلسفة تتسم بالاستقلالية وتروم تحقيق أهداف وطنية وقيم ومثل ومبادئ سامية. إنه باختصار جزء أساسي من مشروع تنموي ذي أبعاد عقدية فكرية واقتصادية وثقافية.
لذلك كانت لحظة الالتقاء بين السماء والارض (إقرأ) وكانت أمة خاتمة الرسالات أمة إقرأ، وقد قيل إذا أردت أن تتعرف على مستقبل مجتمع فأنظر إلى واقع مدرسته.
وحديثنا في هذه العجالة عن التعليم في قطر موريتانيا يهدف إلى محاولة كشف نقاط الضعف وإنارة الطريق نحو أفضل الأساليب في تصحيح المنظومة التربوية الوطنية، وتوضيح أبرز المعوقات التي حالت دون تحقيق الغايات الكبرى من مختلف ما يسمى إصلاحات التعليم التي عرفتها البلاد.
لقد عرف القطر الموريتاني تعليما مفرنسا بالكامل ورثه عن الاستعمار الفرنسي بعيد في غاياته ومضامنه عن حاجة البلد وخصوصيته الحضارية وهو ما استمر إلى غاية 1979 مع إدخال قليل للغة العربية (ساعتين أسبوعيا).
ولقد ساعد على ذلك ضعف النخبة الوطنية وحداثة الدولة وارتهان الأطر الموجودة للثقافة الفرنسية حتى لا أقول للاستعمار الفرنسي.
فكان التعليم عائما يتسم بغياب الأهداف وفقدان النجاعة وعدم الانسجام بين مخرجاته وسوق العمل الوطنية.
ولقد دفع ضغط الحركة الوطنية السياسية عموما، والتيار العروبي خصوصا من أجل إصلاح للتعليم، حكام البد إلى ما أسموه "إصلاح" 1979 الذي عمل على إيجاد نمطين من التعليم معرب ومفرنس وكان ذلك تلبية لرغبة سياسية لدى الحاكمين في تهدئة الأوضاع وتنويم الناس أكثر من مراعاته لغايات وطنية أو حسم لهوية البلد الثقافية.
وقد أفضى ذلك إلى وجود جيلين متصارعين يحمل كل منهما تكوينا مختلفا ومخرجات تعليمية بعيدة عن حاجة سوق العمل الوطنية.
وتحت ضغط الممولين،جاء ما يعرف بإصلاح 1999 الحالي والذي عمل على تدريس المواد العلمية بالفرنسية والمواد الأدبية بالعربية وهو ما أوصل إلى مستوى التدني الحالي في مستوى تعليمنا الوطني والذي ينذر بالخطر الشديد.
غير أن الأخطر من ذلك والأشد فتكا بمنظومتنا التعليمية هو غياب الاهتمام الرسمي بالتعليم والمدرس؛ فظل هذا الأخير الأكثر تعاسة ضمن قائمة الموظفين العموميين من حيث الراتب والعلاوات والسلم الوظيفي.
وحصلت ردة فعل عملت على انتشار الاختلاس وموت الضمير المهني وتسييس التعليم خدمة للإرادة السياسية الحاكمة فبدأ التراجع عن المدرسة الجمهورية نحو المدرسة الأهلية وقل التأهيل للمدرس وغاب التأطير والتكوين المستمر كل ذلك نجم عن:
- انعدام مصادر التمويل الكافية؛
- قلة المؤسسات التعليمية؛
- استخدام أساليب تقليدية في طرق التدريس؛
- افتقار المنهج الدراسي للمعلومات الجديدة
- تدني نوعية التعليم؛
- سيطرة الجانب النظري وحشو المعلومات المكتوبة والتلقين؛
- قلة الكتب والمكتبات.
وانطلاقا من هذا وتأصيلا لرؤيتنا الثورية فإن الأمر يتطلب وبأسرع وقت الدخول في الحلول الجذرية لإصلاح منظومتنا التعليمية ولن يتأت ذلك إلا من خلال:
- تعليم مجاني في مختلف مراحل التعليم؛
- إصلاح المنهاج التربوي ليتضمن ما يحقق الغايات الكبرى من العملية التعليمية في ضوء خصوصيتنا الحضارية وما يحقق التعليم المماثل في الدول المتقدمة من حيث تحقيق المواءمة بين مخرجاته وحاجة سوق العمل الوطني؛
- حسم لغة التدريس بلغة القطر الرسمية (اللغة العربية) وتدريس لغاتنا الوطنية ضمن المناهج التربوية الموحدة .
- إبعاد التعليم عن التسييس وإحياء المدرسة الجمهورية التي تبني الولاء للوطن والأمة دون غيره من الولاءات الأخرى؛
- الرفع من مكانة المدرس معنويا وماديا بما يكفل له القيام برسالته النبيلة على أكمل وجه؛
- إحضار مبدأ العقوبة والمكافأة؛
- تمكين هيئات التأطير والتصور والمتابعة من القيام بواجبها؛
- إنشاء مجالس للتعليم تتشكل من العناصر الأكثر خبرة واستقامة في القطاع؛
- التركيز على التقويم والعمل على إيجاد الصيغ التي تضمن الشفافية في الامتحانات .
- إنزال العقاب على المخالفين لمبدأ الشفافية وتكافؤ الفرص؛
- ضمان توظيف الكفاءات التي تشكل مخرجات التعليم توظيفا يوفر مستوى لائقا من الحياة الكريمة.
إن التعليم باعتباره مشروعا حضاريا يجب أن ينطلق من مبادئ الأمة وثوابتها الذاتية المتمثلة في مقومات هويتنا الحضارية من لغة عربية ودين الإسلام و ثقافتنا العربية و الإفريقية.
إن مشروعا بهذا الحجم يتطلب إجماعا وطنيا وإسهاما من الكل في سبيل تحقيقه ويتطلب أول ما يتطلب إرادة سياسية عليا تدرك خطورة الوضع وتقدر حجم المسؤولية المترتبة عنه وهو ما يشكل بارقة أمل المواطن في انتشال منظومتنا التعليمية من الهوة السحيقة التي انحدرت فيها.
جريدة الدرب